أي جمال يتبدى أمامه؟! لم ير أجمل منها في حياته.. انبهر بها وهي تتلألأ في زيها الأسود! أنوار قدسية تتجلى.. تخترقه.. تزلزله.. تأسره، فيهيم بها عشقا! يطوف حولها.. ينعتق من قيد ثقيل، كأنه يحرق بداخله صك العبودية، فقد كان عبدا لنفسه لا يبرح الطواف حولها، ويغرقها بالقرابين، فلا تزداد إلا تعنتا وتجبرا عليه، ولا يزداد إلا تعاسة وشقاء.. والنفس المدللة المغرقة في الشهوات لا تشبع أبدا ولا ترضى..!
يملي بصره، بل قلبه بجمالها، يطوف حول الكعبة المشرفة، وهي تسطع بهاء ونورا.. يلهج قلبه -لا لسانه- بالدعاء … تمطر بداخله سحابة دكناء غيثا، يروي روحه الظمأى…!
يطوف بين الحجيج من كل فج عميق.. يبكي سعادة.. يدعو لزوجته وهي تطوف معه.. خجل منها، فكم صرخ في وجهها حين فاجأته بهديتها : تذكرة للحج رفقتها.. استهزأ ـ حينها ـ منه أصدقاؤه في المقهي : ستصبح شيخا هرما وأنت في شبابك.. ستصبح مريدا تعلق السبحة في عنقك وتتمتم كالمجنون … الحج للشيوخ فقط!
وقيل له أيضا : زوجتك حمقاء.. كان عليها أن تأخذك إلى أوربا.. المهم، سافر إلى هناك للسياحة والتبضع.. الحج فرصة للسياحة!!
استعذب الحياة وهو بالقرب من الله عز وجل، وفي ضيافته، يؤدي مناسك الحج.. وكأنه ولد من جديد!
عاد من الحج شخصا آخر، مطمئن البال، سعيدا، نشيطا في عمله، وفي بيته.. بعد أن كان مهملا لوقته ولأسرته مدمنا على المقهى ورفقته التي لا تحسن سوى تبذير الوقت في الغيبة والنميمة! أصبح قلبه معلقا بالمسجد، ومتيما بالكعبة المشرفة والقبة الخضراء حيث قبر الرسول .. وكلما استقبل القبلة للصلاةـ تراءت أمامه الكعبة، وهفت روحه إليها، وأخذه الحنين إليها، وإلى جمالها.. ذلك الجمال الذي جعله ينظر بقلبه إلى قلبه، وإلى العالم حوله.. فترى كل شيء جميلا، وينقب بروحه المرهفة بحثا عن مكامن الجمال في كل تفاصيل الحياة..!
ذة. نبيلة عـزوزي