أنواع من التوريث ينبغي الاعتناء بها :
هناك أنواع من التوريث يحسن إظهارها والاعتناء بها حتى تتم الاستفادة منها، ولأجل أن تتناقلها الأجيال تناقلا حسنا، وجيل اليوم ـ بل المسلمون منذ أجيال ـ مقصِّرون في الاعتناء بها وتوريثها لمن بعدهم توريثا حسنا، وهذه مشكلة من المشكلات الكبيرة في مجتمعاتنا الإسلامية عامة، وفي البيئات الدعوية الشرعية خاصة، وفي تقديري أنه إذا أُحسن التعامل معها ووضعت الحلول الناجحة لها فإن مردود ذلك سيكون ضخما رائعا جليلا، فمن هذه الأنواع :
النوع الأول : لقاء الدعاة والعلماء والصالحين
إن من أعظم طرق التوريث المخالطة المباشرة مع الدعاة والعلماء العاملين والصالحين، فإن أكثر هؤلاء لم يترك مذكرات، ولم يورث كتبا ولا رسائل ولا تجارب مكتوبة، فإن ماتوا ماتت معهم تجاربهم وعلومهم إلا من شاء الله تعالى أن يبقى له ميراثا تتناقله الأجيال.
وسبيل تعويض ذلك هو الاستفادة من أولئك العظماء في حياتهم، والمكوث معهم والأخذ منهم، فهذه وراثتهم، ولقد حرص السلف على ذلك حرصا عظيما فضربوا بذلك أحسن الأمثلة في اعتنائهم بعلمائهم الأحياء وأخذ ما عندهم من العلم، فهذا الإمام مالك بن أنس(1) ـ إمام دار الهجرة ـ يقول :”كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه”(2)، فلتتصور هذا أيها القارئ ولتعجب طويلا من أولئك العظماء.
وهذا مهدي بن حسان(3) يقول :
“كان عبد الرحمن بن مهدي(4) يكون عند سفيان(5) عشرة أيام وخمسة عشر يوما بالليل والنهار، فإذا جاءنا ساعة جاء رسول سفيان في أثره بطلبه، فيدعنا ويذهب إليه(6) فهذا حرص عظيم من الطالب والأستاذ معا رحمهما الله تعالى .
وكان العلماء يعرفون أهمية هذا الأمر، فربما خصوا بعض طلبتهم بوراثة علمهم او أن الطالب قد نبغ بين طلاب شيخه فعرف وخُص به، وهذا كان حال جماعة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى، أذكر منهم :
1- حبر الأمة عبد الله بن عباس وبعض طلبته الذين اصطفاهم :
وكانوا جماعة اشتهروا بالأخذ عنه والاختصاص به، فمنهم : مجاهد بن جَبْر المكي(7)، وقتادة بن دعامة السدوسي(8)، وقد ورث أولئك الطلبة علمه حتى أن مجاهدا قرأ عليه القرآن ثلاث مرات من فاتحته إلى خاتمته يسأله عنه، فقد قال رحمه الله تعالى :
“قرأت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف كانت”(9).
2- شيخ الإسلام ابن تيمية(10) وتلميذه الحافظ ابن القيم(11) :
هذا وقد عرف القاصي والداني شدة تعلق ابن القيم بابن تيمية رحمهما الله تعالى، وشدة اختصاصه به وانتصاره له، رحمهما الله تعالى، وكان ذلك ناتجاً عن المعاشرة الطويلة والقرب من الأستاذ.
3- شيخ الإسلام ابن الحجر العسقلاني(12) وتلميذه الحافظ السخاوي(13) : وتعلق السخاوي بشيخه معلوم، حتى أنه وضع له ترجمة حافلة سماها “الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر”(14)، وكان ابن حجر يتفرس في تلميذه السخاوي خيرا ويخصه بأشياء، وكان السخاوي من أكثر الآخذين عنه، وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يُقرأ عليه إلا النادر(15)، وكان الحافظ ابن حجر يعلم شدة حرص تلميذه فيقابل حرصه بحرص أيضا على تعليمه، “فكان يرسل خلفه أحيانا بعض خدمه لمنزله يأمره بالمجيء للقراءة”(16).
هذا فيما يتعلق بالعلماء مع طلبتهم، أما الدعاة فقد حرص كثير منهم على توريث دعوته لغيره من الناس باللقاء معهم، وإفادتهم من تجاربه، وتوريثهم من علمه وفنه، وكان منهم من يخص بعض طلبته بمزيد من الاعتناء والتوجيه، وذلك متضح في سير بعض الدعاة، منهم :
1- جمال الدين الأفغاني(17) وتلميذه الأستاذ محمد عبده(18).
2- الأستاذ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا(19).
3- الشيخ محمد محمود الصواف(20) وأستاذه أمجد الزهاوي(21).
وعلاقة هؤلاء الثلاثة بمشايخهم وثيقة إلى حد كبير جدا، ولقد ورثوا منهجهم وطريقتهم في الدعوة، وكان للمشايخ أثر كبير في حياة التلاميذ الأعلام، وهذه العلاقة ينبغي أن تكون منهجا يُسار عليه ويُصار إليه، ونبراساً يضيء لنا الطريق إلى الاستفادة من كبار العلماء والدعاة الأحياء حتى لا يأتيهم الأجل إلا وقد وُرثوا وراثة حقيقية نافعة(22).
> د. محمد موسى الشريف
——-
1- مالك بن أنس بن مالك. أنظر ترجمته في “سير أعلام النبلاء” : 8/48-135.
2- “نزهة الفضلاء” : 2/736.
3- هذا والد عبد الرحمن بن مهدي.
4- عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري الأزدي بالولاء البصري اللؤلؤي انظر ترجمته في “سير أعلام النبلاء” : 9/192-209.
5- سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي. أنظر ترجمته في “سير أعلام النبلاء” : 7/229-279.
6- “نزهة الفضلاء” 2/817-818.
7- أبو الحجاج المخزومي بالولاء. انظر “التقريب” : 520.
8- أبو الخطاب البصري. أنظر المصدر السابق : 453.
9- أنظر “تهذيب التهذيب” : 10/40.
10- أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام. أنظر”الدرر الكامنة” : 1/154-170.
11- محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعي الدمشقي، شمس الدين ابن قيم الجوزية الحنبلي. أنظر المصدر السابق : 4/21-23.
12- أحمد بن علي بن محمد، الأستاذ، أبو الفضل الكناني العسقلاني المصري الشافعي. ويعرف ب(ابن حجر). أنظر “الضوء اللامع” : 2/36-40.
13- الشيخ الإمام الحافظ الرُّحلة أبو عبد الله شمس الدين محمد ابن عبد الرحمن بن محمد السخاوي القاهري الشافعي. انظر “النور السافر” : 16-21.
14- وهي مطبوعة متداولة.
15- “الضوء اللامع” : 4/6
16- المصدر السابق.
17- محمد بن صَفْدر ـ أو صفترـ الحسيني، جمال الدين الفيلسوف. انظر”الأعلام”: 6/168-169.
18- محمد عبده بن نحسن خير الله، من آل التركماني، مفتي الديار المصرية، ومن كبار رجال التجديد في الإسلام. انظر المصدر السابق : 6/202-253.
19- القلوموني البغدادي الأصل الحسيني النسب، أحد رجال الإصلاح. انظر المصدر السابق : 6/126.
20- داعية إسلامي مناضل. ولد بالموصل سنة 1333 وتعلم بها وبالأزهر. أنظر “ذيل الأعلام” : 200-201.
21- أحد كبار علماء العراق. ولد في العراق وتعلم فيه، وكان رجلا ربانيا ورعا، ذكيا، فقيها مجتهدا بارزا، توفي سنة 1387.
22- هناك عدد من التلامذة اختصوا بمشايخهم وعرفوا بهم إضافة إلى هؤلاء، ومنهم : الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وتلميذه الشيخ عطية محمد سالم رحمهما الله تعالى وغفر لهما، وكذلك الشيخ حافظ الحكمي مع شيخه الشيخ عبد الله القرعاوي، وغيرهم كثر رحمهم الله تعالى جميعا.