نظرات في الهدى المنهاجي في سورة القلم
د. الشاهد البوشيخي
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، هذا اللقاء الثالث هو مع الهدى المنهاجي في سورة القلم، وكالعادة أقول في كل سورة إن كتاب الله عز وجل لا يمكن -بحال- لأحد أيّاً كان أن يستخرج منه كل ما ينبغي أن يُسْتخرَج، ولذلك فهذا ماتيسر بفضل الله سبحانه عز وجل وهو مما في هذه السورة من الهدى المنهاجي نسأل الله سبحانه عز وجل أن ينفعنا به، وينفعنا بكتابه وسنة نبيه.
ثم بعد ذلك أقول : أوّلُ مستفاد :
1) من سُننِ الدّعواتِ اتِّهامُ الرّأْسِ بما يصْرِف الناس عن دعْوته في البدايات. وأفضل سلاح للرّدِّ : الثّبات، والتخلُّق بأحْسن الأخلاق :
فالله تعالى يُبْرزُ في الآيات الأربع الأولى حُسْن خــــــــلق رســول الله {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربّك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقبلُ في سورة العلق كان الله عز وجل يدافع عن رسوله تجاه طاغِية بعَيْنِه، فالسورة دفاعٌ عن عبد الله حين يُخْلِصُ عبادتَه لله عز وجل، فيكُون على الهدى، آمراً بالتقوى. ومتى كان عبد لله تعالى. كذلك فالله عز وجل يتولاَّهُ ويُدافِع عنه.
أما هنا فالسورة متصدية للدفاع عن رسول الله تجاه جمْعٍ من الطُّغاة، وليس تجاه واحد بعينه، بل العبارة شاملة للجميع من أول السورة إلى آخر السورة تقريبا لأن الذي يغلِب عليها ويطغى عليها هو التعبير بصيغة الجمع فيمن يُواجه رسول الله .
وذلك يرشد إلى أن الله تعالى كما يكفي عبْدَهُ المؤمن شرَّ الطاغية الفرد يكفيه كذلك شرَّ الطغاة الجماعة، كُلُّ ذلك الله عز وجل يتولاه.
هذا إطار كبير للسورة يشملها بكاملها.
أما النقطة الأولى وهي الاتجاه للرأس
فهو أنه فعلا في النظام العام لسَيْر الدعوات -والأسوة والقدوة هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم مَنْ حمل أمانتَهم عبر التاريخ مقتديا بسيرتهم- دائما يكون التوجُّه إلى الرَّأسِ، وهذا الذي يُجَلِّي : لِم يَهتم نماذج من الطغاة في هذا العصر بالنُّشَطاء؟! لِمَ يهتمون بالرؤوس؟! لِمَ يهتمون بالذين يأمرون بالقسط من الناس؟! لأن قطْع الرأس يقضي على الدّعوة من جذورها، كما يُقال في المثل الدارجي “اقْطَع الرأس تنْقطِع الخصومة”.
لكن التوجيه الذي يجب التزامه أمام هذه الظروف، وأمام هذا الحال هو الثَّبَاتُ على الحق أولاً، هذه نقطة أساسية، حَذَارِ حَذَارِ من التولِّي، الثباتُ على الحق أقوى سلاح يتحَدَّى به الرُّسُلُ وأتباعُهم خُصومَ الدّعوة.
ثم بعد ذلك التخلُّق بأحسن الأخلاق، لمَهْ؟! لأن رسالة الدّعوة تزكيةُ الإنسان وتحسينُ أخلاقه، فإذا وجد الشيطان مدخلاً، أو ثقْباً ينْفُذُ منه فإنه سيوسع الفَتْق لتشويه الدّعوة، ولذلك كان الخُلُق الحسن بالنسبة للداعي إلى الله عز وجل هو السلاح الحقيقي الذي به يُواجِه كل هجوم، وكل تهمة كيفما كان نوعها، ولا يُسْتَطاعُ أن يُنْفَذَ إليه مهما أُلْصِق به من الأكاذيب ومن الإفتراءات ومن الترهات، لأن كيانَهُ له مناعَةٌ خُلُقية تحميه تلقائيا من كل ذلك.
والله عز وجل يختارُ من عباده -ولاسيما من الأنبياء والرسل- من البداية ذوي الخُلُق الحسن المؤهلين لحمل أمانة الدِّين.
فاختيار النماذج الرفيعة خلقاً للدّعوة هو من أول الهدى الذي يواجهنا في السورة؛
إذ فواتح سورة القلم من أول ما نزل، وحسب الحديث الحسن هي ثاني ما نزل على رسول الله ، وهذا منسجم فعلا، إذا تأملنا العلاقة بين مضمون هذه الآيات الأربع، ومضمون الآيات الخمس الأولى في سورة العلق، معنى هذا الكلام : أن رسول الله وهو يُشْهد له هنا بأنه على خلق عظيم معناه أنه كان على خُلُقٍ عظيم في بداية الدعوة، وهذا يوجِّه إلى أن هذه النماذج البشرية الرفيعة ذات الخلق الحسن هي التي يجب أن تُختَار وأن تُصطفى لأنها تكون -في الوسط الذي تعيش فيه- في وضع المحبوب، في وضع المطلوب، في وضع الشَّامَة، في وضع النموذج حتى قبل أن تحمل أمانة الدين. هذه النقطة مهمة جدا.
ثم إن المفسرين -عادة- يتجهون في فهم هذه الآية إلى الحديث المشهور : سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت : >كان خلقه القرآن< هذا الحديث ورد متأخراً، وهذه الآية نزلت قبل أن ينزل القرآن بكامله، بل نزلت قبل أن ينزل أغلبُه. آيات قليلة فقط، ومع ذلك شَهِدَ الله عز وجل لرسوله بهذا الخُلُق.
واستعمل لفظة {على} للدلالة على التمكن كما استعملها قبل في {على الهُدى} {أرأيت إن كان على الهُدَى} {وإنك لعلى خلق عظيم} فهو هناك في سورة العلق متمكنٌ من الهدى، وهُو ها هنا أيضا متمكنٌ من الخلق، وليس خلقا كريما عاديا، بل خلقٌ عظيمٌ، إشارة إلى عدم محْدُودية هذا الخلق، وتحجيمه في جانب كذا أو جانب كذا. ونظير هذا على بصيرة في قول الله تعالى : {قل هذه سبيلي أدعُو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتّبَعَن}(يوسف : 108).
فالرسول كان على الهدى، وعلى خلق عظيم، وعلى بصيرة من أمر الدين، وأمر الدّعوة، وأمر التربية للأتباع، فعلى ورثة الرسول أن يكونوا متمكنين أيضا من كل ذلك، وأن يتسلحوا بما تسلح به رسول الله .
فجميع من اتبع رسول الله لهم طريق واحد هو الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة والمنتظر ولاسيما في البدايات أن يصيبهم ما أصاب رسول الله ، فعليهم أن يتسلحوا بما تسلح به رسول الله حتى يتحصنوا من منافذ الشيطان.
2) الحلُّ في المستقبل والله تعالى الأعلم بالأهدى والأضل :
{فستبْصِر ويُبْصرون بأيّكم المفتون إن ربّك هو أعْلم بمن ضلَّ عن سبيله وهُو أعْلم بالهتدِين} في الآيات إشارة توجيهية إلى تكفل المستقبل بالحلِّ أي الزمن جزء من العلاج.
فستبصر ويبصرون. متى؟ يوم القيامة؟! الكلام أساسا في هذه الدنيا، سيقع هذا الأمر في الدنيا سيتجَلّى للناس كما يقول الله تعالى في آية أخرى {ولتَسْتَبِين سبيلَ المُجْرِمين} سيتّضِح الأمر بجلاء، سيُبْصِر النّاس جميعا الذين يكذبون بالدين، والذين يعارضون الدعوة إلى الله عز وجل، إذا ثَبَتَ رِجَالُها، إذا صبرَ أهْلُها، سيأتي الوقت الذي يميِّز الله فيه الحق من الباطل، ويتميز الخبيث من الطيب، ويتضح كل شيء. آنذاك {فستبصر ويبصرون} لستَ وحْدك تبصر، ولكن : فستُبصر أنت، وسَيُبْصرُون هم كذلك {بأَيِّكُم المَفْتُون} بِأيّكم تكون الفِتنة للنّاسِ؟! من هو الذي يَفْتنُ الناس عمليّاً؟ من؟
لفظ المفتون جاء على صيغة اسم (مفعول) ولكنّ معْناه معْنَى المصْدَر كما قال بعض المفسرين، وهو الأفضل في المعْنى، كأنه بمَعْنَى (بأَيِّكُم الفِتْنة) (بأيِّكم تكون الفتنة للناس). وإذا تركنا اللفظ على ما هو عليه يقْبَلُ أن يُفْهم منه المراد على ما هو عليه. {بأيّكم المفتون} المفتونُ بأيكم هو؟! المفتون الذي سيُفْتَن، الذي تصيبُه الفتنة، الذي يصبح مفتوناً، بأيكم سيكون؟! هل هو بهذا أم بغيره؟! فسيُبْصَر هذا، سيُصْبح واضحاً، مَنِ الفتّانُ حقيقة؟!.
فخلاصة هذه النقطة :
هي أن المستقبل فيه الحل.
فيجب الثباتُ والانتظار.
هذا معنى الكلام.
الزمن كما قيل جزء من العلاج.
فقط ينبغي الصبر والاستمرار. الثبات والاستمرار، هذه هي النقطة كل الأمور تُبْني على هذه النقطة التي جَلَّتْها الآيات في جهة أخرى {وجَعَلْنا مِنْهم أَئمّة يَهْدُون بأمْرِنا لمّا صَبَرُوا وكانُوا بآياتِنا يُوقِنُون}(السجدة : 24).
إذا كان اليقين بما جاء من عند الله عز وجل ثم كان الصبر عليه، والثبات عليه كل النتائج بعد ذلك تأتي في إبّانها.
لكن إذا وقع اضطراب، إذا وقع اهتزاز، إذا وقع نكوص، إذا وقع، إذا وقع، إذ ذاك تتخَلَّف النتائج وتأتي العقوبات، بدَلَ أن تَأتي البشائر والنتائج السارة.
فإذن المقصود هُنا هو أن الزَّمَن له تأثير، والمسقبلُ كشّافُ، والحلُّ يأتي مع الزمن، فيجب الصبر. والصبر أنواعٌ منها : انتظار الفرج، بعد تحمُّل جميع ما يمكن أن يأتي في الطريق، سواء كان ذلك اختيارا أو اضطراراً، فهذه نقطة مهمة جداً أنّ في المستقبل الحل، وأن الزَّمن جُزْءٌ من العلاج.
3) لا طَاعَة لمكذِّبٍ بالدِّين ولا قبول لمساومته، ولا طاعة لمن كان ذا خُلُقٍ لئيم أثيم :
هذا القسم هو الذي يقول الله تعالى فيه : {فلاَ تُطع المكذبين ودُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنون ولا تُطِع كل حلاف مهِين همّازٍ مشّاءٍ بنَمِيمٍ منَّاعٍ للخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بعْدَ ذلك زَنِيم}.
في السورة السابقة (العلق) كان الختم {كلاّ لاَ تُطِعْهُ} وها هنا {فلاَ تُطع المكذبين ولا تُطِع كل حلاف مهِين}.
إذن الذين يكذِّون بالدين، الذين يكذّبون بما جاء به الرسول ، الذين يُكذِّبون بالقرآن، الذين يكذِّبون بما صحَّ عن رسول الله ، الذِين يُكَذِّون باليوم الآخر، الذين يصُدُّون عن طريق الله، هؤلاء جميعاً وأمثالهم لا طاعَةَ لهُم من أهْلِ اللّه وأوْلِياء الله، ولا قبول لمساومتهم.
وهذه نقطة مهمة جداً.
إذ حقيقة الدعوة : أنّها تقوم على مبادئ ثابتة راسخة لا تقبل المساومة.
فلا مجال لمثل هذ الاقتراح : نعْبُد إلهك شهراً وتعْبُد إلهنَا شهراً. لا مجَالَ البتَّة.
ما جاء من عند الله هو الحق، ولا مجال للمساومة عليه، {فاسْتَمْسِك بالذِي أُوحِي إِلَىْك}(الزخرف : 43) ما جاء من عند الله عز وجل يجب الاستمساك به، يجب العَضّ عليه بالنواجذ، يجب قبضُه كالجَمْرِ وإن كان مُحْرقاً، وإن كان مؤلماً، وإن كان صعباً، وإن كان شَاقّاً، كيفما كان نوعه يجب الثبات عليه.
هذه نقطةٌ لا تقبل الكلام، في السيرة، ولا في القرآن. وطبعاً السيرةُ هي صَدًى لكتاب الله عز وجل في الواقع.
المؤمن كما نقول اليوم صاحب مبْدإ، والداعية مبدئي أيضاً، أيْ هناك أشياء لا مفاوضة فيها، ولا مساومة عليها، ولهذا كانت هذه السورة {قُلْ يا أيُّها الكافرُون لا أعْبُد ما تعْبُدُون ولا أنْتُم عابِدُون ما أعْبُدُ ولا أنَا عابِد ما عَبَدتُّم ولا أنْتُم عابِدون ما أعْبد لكُم دينُكُم ولِي دِين}.
طريقان منفصلان غير قابليْن للالتقاء، بمعنى : نعم للحوار وعلى الرَّحْبِ والسَّعَة، لكن لا تنازُلَ أثْناء الحوار عن أيِّ مبدإ من مبادئ الدِّين الأساسِيَّة القَطْعِيّة الصحِيحَة المفْرُوغِ مِنها، لا تنازل عن شيء من ذلك.
فهذه نقطة مهِمّة جدا، لا قبول للمساومة، ولا طاعة لمكذب بالدين، ولا لمن كان ذا خُلُق لئيم، ولا لمعتد أثيم.
الطاعة فقط لمن له الأهلية للطاعة، أي لمن أمر الله تعالى بطاعته، لأن الطاعة في أصلها لله، وإنما أطيع محمد بن عبد الله لأنه رسول الله واللّه أمر بطاعته {ومَا ءاتَاكُم الرّسُول فخُذُوه، وما نهاكم عنْه فانْتَهُوا}(الحشر : 7) {يا أيُّها الذِين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}(النساء : 59) وأمراء رسول الله يطاعون بأمر الرسول، وأولوا الأمر، إنما تجب طاعتهم بأمر الله، ماداموا آمرين بطاعة الله عز وجل؛ إذْ القَاعِدة الكُلّىة الضخمة في هذا الدين هي أنْ >لا طَاعَة لمخلوق في معْصية الخالق< فلذلك كان هذا الأمر من أوائل ما رُتِّب وسُطِّر ليسْتَقِرّ {فلاَ تُطع المكذبين ودُّوا لو تُدْهِنُ فَيُدْهِنون ولا تُطِع كل حلاف مهِين همّازٍ مشّاءٍ بنَمِيمٍ } يعني ذا الأخلاق السيئة المنافية للشريعة وللدِّين لا يُطاع بوجهٍ هذا ليس أهلاً للطاعة وليس صالحا للطاعة.
4) من أسباب التّكذيب القوة المالية والبشرية :
لماذا يكذِّب المكذبون؟ :
القوة المالية والعسكرية -بتعبير اليوم- هي السبب، الله عز وجل قال {أنْ كان ذَا مالٍ وبنين } لأَنْ كان ذا مال وبنين إذا تُتلى عليه ءايتنا قال : {أساطِيرُ الأولين} أي خرافات الناس السابقين.
المال قوته معروفة، فهو يرمز اليوم للقوة الاقتصادية أما البنون فهم رمز للقوة البشرية، وهم رمز للقوة العسكرية اليوم، ومن اجتمعت عنده القوة الاقتصادية والعسكرية توفرت له أسباب الطغيان، يَظْلِم ولا يُظلَم، ويُذل ولا يُذل يخْضع الناس لحُكمه، ولا يخضع لحكم أحدٍ، بل لا يخضع لحُكم الله {المالُ والبَنُون زينةُ الحياةِ الدّنيا} {أن كان ذا مَالٍ وبنين إذا تُتْلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين}.
سبق في السورة السابقة {إن الإنسان ليَطْغى أن رآه استَغْنى} حين يُوجَدُ المال، وتوجد القوة العسكرية فإن الإنسان يَطْغى مباشرةً، ولا يبالي، بما جاء من عند الله عز وجل.
فرعون من هاهُنا أتِي، فراعِنَة العصْر من هاهنا أُتُوا. الجميع في كل زمان وفي كل مكان يطغى بسبب القوة الاقتصادية والعسكرية العمياء {أن كان ذا مَالٍ وبنين إذا تُتْلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين}.
5) نعمة الدّين -وهي أعظم النعم- بلاء؛ فمن كفَرَها فقد ظلم وطغى وعرَّضَ نفسه للعذاب الأصغر في الدنيا والأكبر في الآخرة :
هذا خلاصة هذا القسم الخاص بأصحاب الجنة، لماذا جيء بهذه الآية هنا {إنّا بلوْناهُم} أي بلوْنا هؤلاء المكذبين من قريش وغيرها كما بلونا أصحاب الجنة.
إذا تأملنا في قصة أصحاب الجنة، وربطناها بما سبق، ورأينا أولئك الذين سبقوا، وجدنا أن الإشكال هو : كفران نعمة الوحي، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن بالتحديد.
لأن لفظة النعمة في البدايات، في بداية نزول القرآن الكريم، كانت تنصرف بالدرجة الأولى إلى القرآن.
هذه النعمة {وأما بنعمة ربك فحدّث} {ما أنت بنعمة ربّك بمجنون} وهي التي تمَّت بعْدُ {اليوم أكملت لكم دينكُم وأتممت عليكُم نعمتي}(المائدة : 3) نعمة القرآن تمت وانتهت، وانتهى نزُول القرآن وهي في الحقيقة تستلزم النبوة بالنسبة لرسول الله والرسالة والإيمان وكُل شيء.
هذا القرآن، هو الذي به كان كُلُّ ما كان، كل ما كان حتى في رسول الله كان بالقرآن.
الذي حوله مما كان عليه إلى ما صار إليه هو القرآن، أربعون سنة وهو يَعِيشُ كَبقية الناس من خير الناس، ولكن بنزول القرآن لم يبق ذلك الإنسان الذي كان يعْرفُه الناس، ولذلك اتّهِم بالجنون، واتهم بالكهانة، واتهم بالسحر، واتُّهِم بالشعر، أي اتُّهِم بالعجائب والغرائب، لأنه جاء الناس بشيء لم يأْلَفُوه ولم يعْهَدُوه، جاء بشيء ليس في طاقة البشر.
فنعمة الدين هي النعمة الحقيقية التي تستحق لفظ النعمة. أكْثر من سواها.
هذه النعمة نفسها بلاء من الله، والله يبتلي بالخير وبالشر {ونَبْلُوكُم بالشّرِّ والخَيْرِ فِتْنة}(الأنبياء : 35) والله ابتلى قريشا إذ ذاك بنمعة القرآن، بنعمة الدين، ولكنهم كفروا، والله عز وجل يهدِّدُهم ويخوِّفُهم من جهة، ويتألَّفُهم أيضاً من جهة أخرى ليعودُوا كما عادَ أصْحابُ الجنة في الأخير. ليتُوبُوا، حتى إذا أخْطَأُوا فلْيتُوبُوا، فلْيعْترفُوا بالحقّ، ولْيَعُودوا إلى الله عز وجل.
نحن -المسلمين اليوم- عنْدَنا هذه النعمة موجودة، هي بين أيدينا، نعمة القرآن ليْست إلا عندنا، وهي بلاءُ من الله عز وجل لنا، فإذا شكرناها وأدينا حقها فإن النعم الأخرى ستتوالى تتْرى، ولكن إذا لم نؤد شكرها، ولا يكون أداء الشكر إلا بالإيمان والعمل بها، فسيصيبنا ما أصابهم أو شرٌّ من ذلك.
{قَال أوسَطُهُم ألمْ أَقُلْ لكُم لَوْلاَ تسبِّحون قالوا سُبحان ربّنا إنّا كُنّا ظالمين، فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون قالُوا يا وَيْلنَا إنّا كنّا طاغِينَ عَسَى ربُّنا أنّ يُبدِّلنا خَيْرا منْها إنّا إلى ربِّنا راغِبُون كذلك العذاب ولعذابُ الآخرة أكبر لو كانُوا يعْلمون}.
فهذه النقطة لابُدّ من وضْعِها في الاعتبار لابُدّ أن نُحسَّ بقيمة هذه النعمة وأهميتها.
6) المساكِينُ محْمِيُّون من قبل اللّه عز وجل، فمن حرَمَهُم من حقِّهم فِيما عِنْدَه، حرمَه الله من كُلِّ ما عِنْده :
ورد في الأثر (اتّقُوا مجَانِيق الضّعفاء) المنجنيق كأنه المدفع بالنسبة للعصر الماضي، يأخذ الحجر الضخم ويرمي به فيكسر الحائط والجدران والبيوت وغير ذلك، المنجنيق : جمعه مجانيق، ومجانيق الضعفاء الدعوات؛ لأنهم لا يستطيعون الرد العملي، ولكن يتوجهون إلى الله عز وجل واللّه معهُم، وكلُّ مسْلُوب الحق هو ضعيف، والضعيف لا سند له إلا الله تعالى. أصحاب الجنة اجتهدوا بكل طاقتهم أن يمنعوا وصول أي قدر من حصيلتهم إلى المساكين، اجتهدوا بكل سبيل، ولكن الله عز وجل كان من ورائهم محيطاً فعاقبهم، لأنهم أرادوا حرمان المساكين من حقوقهم في مال الأغنياء ، فالله عز وجل عاقبهم بحرمانهم من جميع مالهم {فَأصْبَحَتْ كالصّرِيم}.
{إنّا بَلَوْناهم كما بَلَوْنا أصحاب الجنة إذْ أقْسَمُوا ليَصْرِمُنَّها أي ليَقْطِفُنّ ثِمَارَها مُصْبِحين – أي في الصباح الباكر- ولا يستثْنُون} أي لا يُبقون شيْئاً من حصيلتها وثمارها يُمْكن أن يُعْطوه للمساكين، وذلك مع غَيْظٍ، لأن الحرْدَ هو المنْعُ مع الغَضَب {وغَدَوْا عَلَى حرْدٍ قادِرِين}.
هكذا تآمَرُوا، هكذا اتَّفقُوا وتواطأُوا {ليَصْرمُنَّها مُصْبِحين ولا يَسْتَثْنون}.
ما الذي حدث؟!
{فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ من ربِّك وهمْ نائمون فأصبحتْ كالصّريم، فتنادوْا مُصْبحين -لا علم لهم بما وقع- أن اغْدُوا على حرثِكُم إنْ كُنْتُم صارِمِين فانْطَلَقُوا وهُم يتخَافَتُون ألاّ يَدْخُلَنَّها اليوم عَلَيْكُم مِسْكِين -يتكلمون بالهَمْس ويتخافتون ألاّ يدخلَنَّ اليوم عليكم مسكين- وغَدَوْا على حرْدٍ قادِرين} هكذا ظنّوا {فلَمّا رأوْهَا قاَلُوا إنّا لَضَالُّون بَلْ نحْن مَحْرُومُون} عندما رأوْها على الشكل الذي رأوا ظنوا أنهم قد أخطؤوا الطريق ثم فهِمُوا ما حَدَث، فهِمُوا وعلِمُوا أنهم قد حُرمُوا من جميع ثمار الجنة، بسَبَب إصْرارهم على أن يحْرموا المساكين من حقوقهم.
إنّ حُقُوق المساكين هي حُقوق اللّه {كلاّ بل لا تُكْرِمُون اليَتِيم ولا تَحُضُّون على طَعَام المسْكين} مسألة المسكين في ميزان الله تعالى شيء عظيم، المساكين باختصار محميُّون من قِبل الله تعالى ومَن حرَمهم من حقِّهم فيما عنده حرمه الله تعالى من كل ما عنده.
والمصائب التي نعيشها ونحياها الآن في الأمة جمعاء من أسبابها الكبرى ضياع حقوق المساكين.
انهَدَم ركن الزكاة على صعيد الفرد والمجتمع، وعلى صعيد الجمع والصّرْف، فضاعت حقوق المساكين، وحدثت المشاكل، ورأينا العجائب من أشكال البطالة، وأشكال البلاء، مع أن هذا الركن وحْده إذا أقيم في بلد من بلاد المسلمين فسيُصْبح البلدُ غنيا في سنوات، لأن ملايير ستتوفَّرُ بسرعة مذهلة، يمكن أن تؤسس مؤسسات إنتاجيه ضخمة، ستنشأ معامل تشغل آلاف العمال، ستنشأ مؤسسات استثمارية، ومشاريع تنمويّة بأموال الزكاة تُمَلَّك للفقراء، ويشغَّل فيها الفقراء، وبذلك تدُورُ عجَلة الاقتصاد. إذا نُظِّم أمرُ الزكاة، ولاسيما إذا أدخلنا أيضاً الأبناك نفسَها على أنها مؤسسات مالية يجب أن تؤدي الزكاة على الأموال المودعَة عندها حسب اجتهاد بعض العلماء.
إذا حدث ذلك وغيرُه، كم نأخُذ من أموال الزكاة؟! وكم نؤسس من مشروع؟! وكم ننفع من مسكين؟! وكم نُنْقِد من أُسَر؟!
7) التّسْبِيح والتوبةُ النّصُوحُ هما طوق النجاة عند تيقن الغرق :
إذا وقعْنا في خطأ فالتسبيح والتوبة النصوح هما طوق النجاة، وأصحاب الجنة تيقّنوا الآن أنهم قد حُرِمُوا فما المخرج؟ إذا استمروا على ما هم عليه، فإن هذا الحرمان سيتوَالى {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون} سبِّحوا الله.
وأول أدب كان من الملائكة مع الله عز وجل حين قَالُوا له : {أتجعلُ فِيها من يُفْسِد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدِّس لك قال إنِّي أعْلَمُ ما لا تعْلمُون وعلّم آدم الأسماء كُلّها ثم عرضَهُم على الملائكة فقال أنْبِئوني بأسمَاء هؤلاء إن كُنْتم صادقين قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم}(البقرة : 30- 31).
فأولا التسبيح : تنزيه الله تعالى عن الخطأ، تنزيه الله عن النقص، تنزيه الله عن أن يكون هذا مِنْه فيه ظُلْم بشكْلٍ من الأشكال، أو خَطإ.
ثم التوبة النصوح : العوْد والرجوع إلى الصراط المستقيم إلى الوضع الصحيح، معنى : أنهم قالوا : {عسى ربُّنا أن يُبدِّلَنا خَيْراً منها} ندِمُوا وتابُوا، شعَرُوا بالمشكلة وقالوا : {إنّا كُنّا ظالمين} {يا ويْلَنا إنّا كُنّا طاغِين} بعد ذلك {عَسى ربُّنا أن يُبَدِّلنا خَيْرا منها إنّا إلى ربّنا راغِبون} رجعوا إلى الله، ، سبّحُوا الله، واعْترفُوا بخطئهم وتابوا. فالتّسبِيح والتوبَة النّصُوح هما طَوْق النجاة عند تيقُّنِ الغرق.
بمعنى أنه حتى ولو تبيّن أن الغرق قد وصل، فإن الإنسان إذا سبح فإن النجاة مرْجُوّةٌ كما حدث لسيدنا يونس عليه السلام، إذ أخرجه الله عز وجل من بَطْن الحوت عندما سبّح {فَلَوْلا أنّه كانَ من المُسَبِّحِين للَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلَى يَوْم يُبْعَثُون}(الصافات : 144) معنى هذا أن التسبيح طوق النجاة.
8) الإسلامُ سلامٌ والكُفْرُ إجْرامٌ ولا مساوة بين المسلمين والمجرمين في ميزان الله تعالى (لا في الدنيا ولا في الآخرة) :
هذا المصطلح مصطلح المجرمين في غاية الأهمية ولا نلتفت إليه، والقرآن يستعمله كثيرا، وسيأتينا في القرآن المكي كثيراً {أفنَجْعَلُ المسلمين كالمُجْرِمين} مُقَابَلةُ المسلمين بالمجرمين يصحح أكبر اعوجاج في الفهم اليوم. المسلم لا يكون مجرما بحال، المسلم مشتق من السِّلْم، ولذلك قال : >المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده< وفي رواية أخرى : >المسلم من سلم الناس من لسانه ويده< وهذه هي التي تنْسَجِم مع الخط العام للإسلام، ولا تضاد بين الروايتن بل بينهما تكامل.
المسلم مصدرٌ للخير مصدرٌ لما يُحقِّقُ السِّلم في الأرض، وفي الكَوْن. هو مصدر لكل أنواع الخير لأنّه أسس حياته من أول مرَّة على الحق، على السير على هدى الله عز وجل، والله عز وجل ضمن حقُوق الجميع؛ حقوق بني آدم، حقوق الحيوانات، حقوق النباتات، حقوق ما نرَى، وحُقوق ما لا نرى، ضمِن حقوق الملائكة، وضمِن حقُوق الجن، كُلُّ ذلك مضمون عند الله عز وجل، وإذا سار الإنسان في حياته وفْقَ هُدَى الله فإنه يُسدَّدُ بإذن الله عز وجل ويُكْفى همَّه كُلّه في هذه الدنيا.
فالإسلام سلامٌ والكُفْر إجرام.
لم كان الكُفْر إجراماً؟!
لأن أوّل جريمة ضخمة لا مثيل لها هي أن تجعل لله نِداً وهو خلقك كما قال .
يعني ببساطة : أن الله أعطاهُ الوجود، وهو تلقائيا يتصور أن الله غير موجود، لا يعترف به نهائيا، لا يتصور أنه كائِنٌ مطلقاً.
أو يتصَوَّرُ أنّ له شريكا شارَك الله في هذا الأمر.
أو يتصوَّرُ بدلاً منه سبحانه وتعالى {ثـــم الذين كفروا بربّهم يعدلون}(الأنعام : 1).
لذلك فـ{إن الشــرك لظُلْم عظيم}(لقمان : 13).
الحقيقة الجلية في هذا المُلك التي ما مِثلُها حقيقة جلية، هي : >لا إله إلا الله< هذه الحقيقة جلية إلى حد : أن الشمس تدل عليها، والقمر يدلّ عليها، والأرض تدل عليها، والأشجار تدل عليها، والأنهار تدل عليها، والجبال تدل عليها، والأسماك والأطيار والحيوات، ما نرى وما لا نرى كل ذلك يدل على أن : >لا إله إلا الله< هي الحقيقة.
يوجد خالقٌ واحدٌ، رازقُ واحد، مُدَبِّر للملك واحد، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}(الأنبياء : 22) {ألا له الخَلْق والأمْر تبارَك الله ربّ العالمين}(الأعراف : 52).
الكفر إجرام لأنه يُفْسِدُ كل شيء.
لأنه من البداية حين يضيع منه المفتاح الأصْلُ الذي : هو لا إله إلا الله، يضيع منه كل تصرُّف صحيح في هذا الملك، ولذلك كان {والذين كفروا بربهم أعمالُهُم كرمَادٍ اشتدت به الرّيح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء}(ابراهيم : 18) {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه}(النور : 39).
لاشيء، جمِيع ما يصْنَعُ مُصيبةٌ {يحْسِبُون أنّهُم يُحْسِنُون صُنعاً} {قُل هل ننبِّئُكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعْيُهُم بالحياة الدنيا وهم يحْسِبون أنَّهُم يُحْسِنُون صُنعا}(الكهف : 99).
لا إحسان في الصنع إلا بميزان الله، ولا سعادة ولا حياة، إلا بهُدَى الله، ولا يستطيع الكفار أن يحسنوا التصرُّف في نعْمة من نّعم الله. لا يستطيعون.
والذي نراه الآن ونظن أنه إحسانٌ، لَىْس بإحسان، العالم لن يستقِر على هذا الوضع أبداً. إنهم يفسدون بإحسان : نعمة العلم يُفسدون بها، نعمة القوة يُفسدون بها، أيُّ نعمة يُفسدون بها في الأرض.
نحن نقول : هُمْ خيرٌ منَّا في عدد من الأشياء.
لماذا هم خير منا؟!.
لأننا نحن أيضا لا نمثِّلُ الإسلام، نحن لا نمثل الآن الإسلام. أقصد >بنَحْنُ< : نحن المسلمين في العالم، لا نمثل الإسلام؛ لأننا لو مثلناه حقيقة لاستحال أن يكون الكفار أعلى درجَةٍ منا في الأرض أبدا {ولنْ يجْعل اللّه للكافرِين على المُومِنين سبِيلا}(النساء : 141) والآن لهم علينا السبيل، فإذاً لا يخلو :
إما أن الله يقول الحق أوْ لا يقول الحق {ومَنْ أصْدَق من الله حَدِيثاً} {ومنْ أصْدَقُ من اللَّهِ قِيلا}.
إذن هناك إشكال؛ من أراد أن يعرف المنْكر ودركات المنكر الذي نحن فيه في العالم الإسلامي فلْيَقْرأ القرآن، ولْيَزن واقعنا بالقرآن.
لينظره فقط من خلال ما وصف الله به المومنين، وما وعد به المومينن.
حين لا يجد ذلك واقعا ويَجِدُ عكسه يتيقّن أن الله عز وجل لا يظلم أحداً {وما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للعَبِيد} فما دامت هذه الأمور ليست موجودة فسببها الذي كان ينبغي أن تترتّبَ عليه غَيْر موجُود.
كيف يُتَصَوّر أن الذين ضرب الله عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله لهم الكلِمَة العُلْيا على المسلمين.
كيف يُتصوّر هذا؟!
لا يُتَصوّر إلاّ بغَضّب من الله عز وجل على المسلمين أعْظم، فابْتلاهُم بالمغضوب عليهم منه. على قاعدة أن الأحقر هو الذي حقر بأحقر منه.
فهذا تأديب من الله عز وجل لنا إذا نظرْنا إلى المآل نرى أن هذا فيه خير إن شاء الله عز وجل، في هذا خيرٌ عظيم للمسلمين، بمعني أن الذي سيثبت على الحق سيأخذ أجرا عظيما. إذا حَيِيَ فسَيَحْيى في خير، وإذا مات فيسموت في خير.
فإذاً الإسلام سلام والكُفْر إجرام” ولا مساواة بين المسلمين والمجرمين في ميزان الله تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة.
9) ظنون المجرمين بربهم سَــرابٌ ستنكشف بعد فوات الأوان يوم الحِساب :
{يوم يُكْشَف عن ساقٍ ويُدْعون إلى السجود فلا يسْتَطِيعون خاشعة أبصارُهم ترهقُهم ذلَّة، وقد كانوا يُدْعون إلى السّجُود وهم سالِمُون}.
10) لاداعي لبخع النّفس على المكذبين فالله يتولاهم بكيده المتين :
بمعنى لا داعي للحسرة الشديدة ولا داعي للأسف الشديد على من كذّب بالدين؟! لا داعي لذلك كله، فالله يتولاّهم بكيْده المتين إستدراجا وإملاء {فَذَرْنِي ومن يُكَذِّب بهذا الحديث سنسْتَدْرِجهم من حيث لا يعْلمُون وأمْلِي لهُم} الله عز وجل يتولى ذلك بنفسه استدراجاً وإملاءً.
11) الدُّعـاة هُـداةٌ لا جباة ولذلك لا يجوز طلب أجر من مدْعوٍّ قبل إسلامه (فإن أسلم طولب بحق الإسلام) :
الدعاة هداة لا جباة، الدعوة إلى الله عز وجل ليس عليها أجْرٌ إلا مِن الله {قُل لا أسْألُكم عليه أجراً إنْ أجْرِيَ إلاَّ علَى الذِي فَطَرَنِي} هكذا جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أم تسْألُهُم أجراً فهُم من مغْرَمٍ مُثْقَلُون} أهذا هو السبب؟! لماذا يكذبون؟!
يكذبون لأنك تطالبهم بأجر على ما تصنع وهم يصْعُب عليهم هذا الأجر، فهو غليظ، وهُم مُثْقلون بالذي تطلب منهم.
هل هذا هو السبب؟! لا أبداً.
هذا استفهام إنكاري. لا شيء من هذا هو السبب.
فالدعاة هُداةٌ لا جُباة ولذلك لا يجوزُ طلب أجْرٍ من مدعُوٍّ قبل إسلامه.
لأنه بعد الإسلام أصْبح يُطالَبُ بحقٍّ الإسلام من زكاة وغيرها، لكن قبل ذلك يُعطى المال، ليُتألَّف قلبُه. لا يُطْلب منه المال، بل يُعْطَى المال، وقد أعطى رسول الله بعض رؤساء العرب في أوقات بعينها نحو ألفٍ ناقة تألّفاً له لأنه إذا أسلم أسلمت معه قبِيلَتُهُ.
12) من اختاره الله تعالى لهداية خَلْقِه فــلاَ يُجُوزُ له مُغَـادَرَةُ موْقِعِه ويجب عليه الصّبْر لحكم ربه :
من اختاره الله عز وجل لموقع من مواقع الخير، فليعْلم أن الله تعالى اختاره، وليس بجهده كان في الخير، وذلك بدْءاً من الرّسل عليهم الصلاة والسلام، فالله عز وجل، هو الذي اختارهم للرسالة، وهو الذي اختار أتباعهم {وجاهِدُوا في الله حقّ جهاده، هو اجْتباكُم} هو اجتباكم واختاركم، اختارنا بفضله سبحانه عز وجل لنكون من أمة محمد ونكُون من الأمة التي كُلِّفت بالشهادة على غيرها، وكُلّفت بتبليغ ما كان يبلغه رسول الله ، هذا في حد ذاته اختيارٌ من الله عظيم لا حول لنا فيه ولا طَوْل، هو محض فضل من الله سبحانه عز وجل.
كُلُّ عَبْدٍ وجدَ نفْسَهُ في الخير، فليعلم أن الله قد اختاره، المومنون اختارهم الله جل جلاله ومنحهم الإيمان، لكن إذا اختارهم فلا ينبغي، ولا يجوز، ولا يصح منهم، ولا يصح لهم أن يغادروا ذلك الموْقِع، مهما كانت الصعوبات فعليهم أن يصْبِروا {فاصْبِر لحُكْم ربِّك}.
هذا التوجيه في قصة سيدنا يونس عليه السلام {فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت} لأنه ما صبَر لحُكْم ربّه، كلَّفَهُ الله بأن يبلغ لقومه، فما استجابوا، فتعِب منهم وضَجِر : دعا إلى الله، ثم دعا، ثم دعا، فما استجابوا فقنط وركِب السفينة كما تعلمون {فسَاهِم فكان من المُدْحضين فالتَقَمَه الحُوت وهو مُلِيم} أي أتى ما يُلامُ عليه.
ماهو هذا الذي يُلام عليه؟!
إنه مُغادرتُه موقع الدّعوة في قومه.
الله أرسله إلى هؤلاء فلْيقف عند هؤلاء. لا مُغادَرَة للموْقع.
ويجِبُ الصّبْرُ على حُكم الله، وذاك من حُكْم الله، كما قال عز وجل لموسى {فخُذْ ما آتَىْتُك وكُن من الشّاكِرِين}(الأعراف : 144).
13) لا تَضِقْ أيّها الدّاعي إلى الله تعالى بنظرة الكُفّار إليك : ولا تضِق بتهمتهم إليك، واعلم أن رسالتك عالمّيّةٌ :
هذه السورة خُتمت بقوله تعالى {وإنْ يَكادُ الذِين كَفَرُوا ليَزْلِقُونَك بأبْصَارِهِم لمّا سَمِعُوا الذّكر ويقُولُون إنَّه لمَجْنُون}.
في البداية كان {ما أنتَ بنعمة ربّك بمجنون} وفي الختْم كان {ويَقُولون إنّه لمجْنون، وما هُو إلاّ ذِكْر للعالَمِين}.
تصوّرْ رسول الله في هذه المرحلة، والقرآن في البداية، والدعوة في البداية، ومع ذلك الأفق يُفْتحُ على المُسْتوى العالمي {وما هو إلا ذِكْر للعالمين}!!!
أقول : عادة الإنسان عندما يرى نظرة الكفار إليه، أو نظرة الصادِّين، المحادين لله عز وجل، إليه يصيبه ضيق عظيم. والمقصود هنا بالنظرة : الموقِف كما يقولون اليوم أي من خلال موقفهم العنيد قد يُشهِّرون، قد يكتُبُون، قد يقُومون بأفعالٍ، قد يكيدون قد يتآمرون، أي لا يرْضون عنه، لا يُعْجبهم أمْرُه، يقولون فيه قولا، ينظرون إليه نظراً شَزراً، يحاصِرُونه…
كل هذا لا يَلْتفِت إليه، لا يضِيق به، ومهما اتّهَمُوا فلا تضق بالتّهم.
هذا التوجيه الذي يعطى لرسول الله هو التوجيه الذي يعطى لكل مُبلِّغ عن الله عز وجل في أي زمان وفي أي مكان.
لا تضِق من نظرة الكفار إليك، مهْما كانت النظرة شديدة الحنق والحِقد، فالكفار كما صوّرهم الله تعالى من شدة غيظهم يكادُون يسقطون رسول الله إلى الأرض بنظرهم الذي يتطاير منه الشرر {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبْصارِهم لما سمعوا الذكر}.
خلاصة هدى السورة
خـــلاصة الهدى في السورة ثلاثة أمور :
> أولا : دين الله تعالى لمن أوتيه نعمة ربانية عظمى يجب شُكْرُها بالتحقق والتخلق بها والثبات عليها.
هذا الهدى الواضح من أول السورة إلى آخرها ولاسيما في القسم الأول من السورة، إذ يجليه أكثر من سواه. لكنه ممتد إلى نهاية السورة {فاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت …}.
الآن مع رسول الله، وبعده مَعَ أي مسلم، أو جماعة مسلمة، المهم الدين لابد من الدين، الدين خُلُق، الدين لباس يجب أن يُلْبس {ولباس التّقوى ذلك خير}(الأعراف : 26) الدين ليس كلاما، الدين فعل، الدين خلُق حسن يتخلق به العبد، وما لم يظهر الدين خُلقا فلن تكون دعوة، ولن يكون شكر، ولن يكون نصر، ولن، ولن…
> ثانيا : الله جل جلاله يتولى أمر المجرمين المكذبين بالدين بكيده المتين، وعذابه المهين، دفاعا عن عباده المسلمين {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}(القلم : 35).
بمعنى أن الجبهة المعارضة المخالفة للدين اللهُ يتولى أمرها حين يكون المسلمون قليلين ضعافا، كأن الله عز وجل يقول لرسوله ولكل مؤمن ومؤمنة من بعده : أنا أكفيك همّ سواك، أنت عليك شيء واحدٌ هو ما قلتُ لك : فافْعَلْه وانتهى الموضوع.
إن العبد في بداية اتجاهه إلى الله عز وجل يأتيه الشيطان، ويزين له أشياء، ويخوفه من أشياء، ثم بعد ذلك تأتيه المشاكل من كل نوع، ولكن إذا صبر واحتسب وثبت، فإن الله عز وجل يكفيه كلّ ذلك {أليس الله بكاف عبده، ويخوفونك بالذين من دونه}(الزمر : 36) هذه النقطة مهمة جدا، أن يحسَّ المؤمن ويحسَّ المؤمنون بأن الله عز وجل معهم كما قال عز وجل لسيدنا موسى عليه السلام وسيدنا هارون {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، قالا ربّنا إنّا نخاف أن يفْرُط علينا أو أن يطغى، قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى}(طه : 45)، نسأل الله عز وجل التوفيق.
> ثالثا : الصبْرَ الصبْرَ لحكم الله، يامن اختاره الله لتبليغ دعوة الله.
والحمد لله رب العالمين