لما فشلت محاولات المنافقين التخذيلية وخابت آمالهم في هزيمة المسلمين عبر صراعهم الطويل مع الوثنية واليهود، وحقق الرسول صلى الله عليه وسلم انتصارات متتالية حاسمة على كلتا الجبهتين، رأى المنافقون أن يبحثوا عن أسباب أخرى لإضعاف جبهة المسلمين وتفكيكها ونشر الفوضى فيها، لكي ينفذوا من خلال ذلك إلى أهدافهم ومطامحهم، فلجأوا إلى أسلوب التخريب الداخلي ونشر الشائعات الهدامة، معتمدين على تسرّبهم في صفوف المؤمنين واحتكاكهم المباشر بهم، وقدرتهم على التخفي والانزواء.
ففي أعقاب غزوة بني المصطلق التي وقعت في مطلع شعبان عام 5 هـ على أرجح الروايات، أطلق المنافقون على يد زعيمهم ابن أبيّ وعدد من رؤوسهم، سهمين فتاكين إلى قلب المجتمع الإسلامي كادا أن ينزفا الكثير من دمه، أحدهما باتجاه الحسّ القبلي الذي لم يكن قد استؤصل بعد، والآخر باتجاه القيم الخلقية الوضيئة التي تميز المجتمع المسلم، فيما عرف بحديث الإفك الذي يعرفه الجميع.. ومن ثم سيقتصر الحديث على السهم الأول.
فلقد حدث -حينذاك- ان ازدحم على بئر هناك غلام من بني غفار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه مع غلام جهني من يثرب، فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين. إلا أن أحدهما ما لبث أن عفا عن الآخر واصطلح الطرفان في أعقاب وساطة عدد من المهاجرين والأنصار. ولكن عبد الله بن أبيّ رأى أن ينتهز الفرصة فأظهر غضبه وصرخ بعصبية “أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدّنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول : (سمّن كلبك يأكلك!!) والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”!! ثم أقبل على من حضره من قومه وفيهم زيد ابن أرقم، وكان غلاماً حدثاً، فقال لهم “هذا ما فعلتم بأنفسكم، احللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم”!
توجه زيد بن أرقم فوراً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب الذي كان يقف إلى جواره : مرّ عباد بن بشر فليقتله!! فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم : إذن لأرعدت له أنف بيثرب كثيرة.. وكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ ولكن اذّن بالرحيل. وذلك في ساعة لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها. فتحرك المسلمون. وعندما سمع ابن أبيّ أن أمره قد انكشف مشى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم متوسلاً وحلف بالله : ما قلت ما قاله زيد ولا تكلمت به! وعندما سمع أسيد بن حضير، أحد كبار الأنصار الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ابن أبي زعم انه ان رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قال أسيد : فأنت يا رسول الله الأعز والله لتخرجنه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. وما لبث أسيد أن تذكر الظروف التي أحاطت بزعيم المنافقين، ودفعته إلى اتخاذ موقفه الحانق هذا على الإسلام ورسوله فقال : يا رسول الله أرفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فانه ليرى أنك قد استلبته ملكا!!
انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يومهم ذاك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم التالي حتى آذنتهم الشمس بالمغيب، فعسكر بهم، وما أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حكيما في معالجته الموقف بهذا الأسلوب العملي. انه موقف نفسيّ يتوغل بعيداً في مسارب النفوس والوجدان، ومجابهته بالكلام والأقوال قد لا تجدي وربما تزيده تعقيداً، فليكن الأمر إذن عملا مجهداً يوازي في حجمه الموقف نفسه ويمتص كل ما يمكن ان يغرزه في نفوس المسلمين من سموم. وسيتكفل التعب والنوم والنسيان بعد ذاك بالإتيان على بقاياه. ومن أجل ذلك يقول ابن هشام “وانما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من عبد الله بن أبي”.. ويذكر المؤرخ الواقدي بأن الناس راحوا يتحدثون بمقالة ابن أبيّ وما كان منه فما هو إلا أن أخذهم السهر والتعب بالمسير، فما نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم ذكر”.
جعل ابن أبيّ بعد موقف الرسول المتسامح ذاك، عليه السلام، إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، وحينذاك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : كيف ترى يا عمر؟ اما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له أنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته! أجاب عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري!!
بل ابن زعيم المنافقين تقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب قتل أبيه!! فما يكون من الرسول عليه السلام إلا أن يجيبه : بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا..
> أ. د. عماد الدين خليل