إن الله تعالى قد كتب لنا الحياة في شهر رمضان، ويسَّر لنا صيام أيامه، نعمة منه ورحمة، ووفقنا إلى قيام لياليه وإحيائها، بفضله وجوده وكرمه، وهدانا إلى أعمال البر والخير، وأعاننا على صنوف الطاعات والقربات، تكرما منه وإحسانا.
والمؤمن الصادق هو الذي أقبل على هذه الطاعات والقربات وفعل الخيرات والصالحات بإخلاص وإتقان، لا يبتغي من ذلك كلِه إلا وجه الله عز وجل، مصداقا لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة، وذلك دين القيمة}، والمؤمن الصادق بأعماله وطاعاته لا يطمع إلا في رحمة الله ورضاه، مصداقا لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه}.
ووفاء لشهر رمضان فإنه من الواجب علينا أن نحرص على أن تظهر علينا بركاته فيما بعده من الأيام، وأن نحافظ على ما كسبناه من طهر في قلوبنا، وعفة في نفوسنا، ونقاء في جوارحنا، وسُمُوٍّ في أرواحنا، وصفاء في أخلاقنا، وإحسان في معاشراتنا، وتسامح وتعاون في معاملاتنا، حتى نكون في صورة العبودية لله تعالى التي يرضاها عنا سبحانه.
إننا مطالبون فيما بعد رمضان بأن نجتهد في طاعة الله عز وجل: أمراً ونهيا، وبأن نسارع إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، وبأن نحافظ على أداء الفرائض كما أمرنا بها رب العزة سبحانه، وبما أن الله عز وجل قد علمنا أن لكل فريضة نافلة، فلا ينسى أحدنا أن يخصص جزءا من أوقاته وأمواله لأداء النوافل: صلاة وصياما وإنفاقا، لأن النوافل تحفظ الفرائض وتصونها وتحافظ عليها، وتجلب محبة الله تعالى، مصداقا لقوله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: >….ومازال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه…<.
ومن نوافل الصيام: ستة أيام من شهر شوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر<(رواه الإمام مسلم وغيره).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى : قال العلماء: (وإنما كان كصيام الدهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين)، ونقل الحافظ ابن رجب عن ابن المبارك: ( قيل: صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل، فيكون له أجر صيام الدهر فرضا)، وصيام هذه الست بعد رمضان دليل على شكر الصائم لربه تعالى على توفيقه لصيام رمضان، وزيادةٌٌ في الخير، كما أن صيامها دليلٌ على حب الطاعات، ورغبةٌ في مواصلة السير في طريق الصالحات.
ولقد أخبرنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن من صام يوما في سبيل الله باعد الله جسده من النار سبعين خريفا، لذلك كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يختارون صيام الأيام التي تشتد فيها الحرارة وتطول فيها الساعات، حتى سئل بعضهم عن سبب ذلك فقال: إنما أستعد به ليوم أطول منه وأشد حرارة.
وبهذا، فإن الطاعات ليس لها موسم معين حتى إذا انقضى هذا الموسم عاد الإنسان إلى المعاصي، بل إن موسم الطاعات يستمر مع العبد في حياته كلها، ولا ينقضي حتى يدخل العبد قبره..
قيل لبشر الحافي رحمه الله تعالى : إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان. فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقاً إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. لذلك ينبغي أن نتذكر جميعا أننا -خلال شهر رمضان- كنا نحضر مجالس الذكر والقرآن ونؤمن على الدعاء في بكاء وخشوع، وإنابة وخضوع، نطلبه الهداية للحق والثبات عليه، ونسأله أن يجعل القرآن إمامنا ومنهاج حياتنا.
فالحذر كل الحذر أن نهجر القرآن: تلاوة وتدبرا وحفظا وفهما وعملا بأحكامه، تعلما وتعليما.
والحذر كل الحذر أن نضيع طاعات تعودنا عليها وأحسسنا بحلاوتها، أو أن نعود إلى معصية ابتعدنا عنها.
والحذر كل الحذر أن يرانا الله في مكان نهانا عنه، أو أن يفتقدنا في موضع أمرنا به. قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : (فأما مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل من بدل نعمة الله كفرا).
وإذا كان الله تعالى قد شرع العيد، فإنه لأجل أن يفرح الإنسان ويسعد بتحقيق الطاعة لله تعالى، فهو عيد شكر وعرفان لفضل الله عز وجل الذي يهدي عباده المؤمنين إلى نعمة الطاعة والعبودية الخالصة لله رب العالمين، وإن الفرحة الحقيقية للعيد هي أن نجدد عزمنا، ونقوي إرادتنا، ونستجمع طاقتنا وقوتنا على أن نعتصم بحبل الله المتين، ونسير على صراطه المستقيم، ونثبت على الحق المبين، ونتحرر من نزوات النفس ونزغات الشيطان اللعين.
وإن فرحة العيد هي أن ندرك أن سعادتنا شديدة الارتباط بسعادة غيرنا من الأحباب والأقرباء والجيران والأصدقاء وعامة الناس أجمعين، وأن نقوم بواجبنا نحو الفئات المحرومة من المهمومين والمكروبين والفقراء والمساكين والضعفاء واليتامى والأرامل والمطلقات، فنمد إليهم يد العون والمساعدة، وندخل عليهم الفرحة والبهجة، حتى تعم الفرحة جميع الناس، ويدخل السرور لكل البيوت، وتهنأ كل الأسر، وتسعد كل العائلات، وتسود الأخوة الإيمانية، وتنتشر المودة والرحمة والمحبة والألفة.
وإن فرحة العيد هي أن يشعر الأغنياء والأثرياء أن السعادة الحقيقية في تفريج كرب المكروبين، وتنفيس هموم المهمومين، وإطعام الجائعين، وكسوة العارين، وإعانة المحرومين، ومسح دموع اليتامى الباكين، عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : >من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه<.
> ذ. إدريس اليوبي