الدكتور الشاهد البوشيخي في حـــــوار لمجلة البيان اللندنية يتحدث عن : الـمضامين التنموية للثقافة الإسلامية أجرت مجلة البيان حوارا مطولا مع الدكتور الشاهد الوشيخي في عددها 189 الصادر في يوليوز 2003، ولأهمية الحوار نعيد نشره في هذا العدد.
فضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله- مدير معهد الدراسات المصطلحية بفاس ورئيس وحدة القرآن والحديث بالدراسات العليا بجامعة محمد بن عبد الله بفاس/ المغرب ، معلمة حية نابضة بهموم العلم والثقافة ليس في الواقع المغربي فقط ، وإنما في واقع الأمة الإسلامية .
له عدة إسهامات في تحريك الحس الحضاري وإيقاظ الشعور الجماعي للأمة من خلال ما يكتب وما يحاضر به في المحافل الثقافية والعلمية.
إن الذي يتدبر خطاب الرجل في كل ما يكتب وما يقول يشده هذا التفكير والنظر الطويل في البحث عن أسباب وعلل الأزمات المحدقة بالأمة ، واقتراح الحلول والعلاج لها . ويأسره هذا التعبير المتين والأسلوب الرصين الذي يختزل المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة وهو يقبس من القرآن الكريم و من البلاغة العربية. والأستاذ البوشيخي إلى جانب ذلك كله داعية إسلامي قدير يحمل هم الدعوة إلى الله .ويسعى إلى استرداد ذات الأمة المهربة وحمل أبناء الإسلام على الرضاع من لبنه الخالص بتصور شامل يستوعب فقه الدين وفقه الواقع ويتسلح بالعلم والعمل.
إننا بحق أمام رجل وهبه الله عز وجل من الطاقات والملكات ، ناهيك عن تواضعه الجم وخلقه الرفيع الذي يشهد له بالقدوة والحكمة.
أن تدخل إلى رحاب عقل العلامة الدكتور الشاهد البوشيخي فأنت تفتح عينيك على مدى مساحة الأفق الرحب الذي يختزن عمق الرؤى وشمولية التطلعات صوب الحياة والإنسان، صوب الأفكار الأصيلة المنبثقة من القرآن الكريم والسنة النبوية .
وإذ نقدم-في هذا الحوار- رائدا من رواد الدعوة الإسلامية المغربية فإننا نتوخى التواصل مع الأفكار الأصيلة التي تفسح لنا المجال للتأمل فيما هو مستمر في العقلية الإسلامية السائدة وكلنا رجاء في أن يجد القراء في هذا الحوار بعض الفائدة حتى تبقى رحلتنا الإسلامية في خط الفكر والعمل منفتحة على المستقبل ومنطلقة في الآفاق “نبراسا” من أجل ثقافة بانية- على حد تعبير الدكتور حسن الأمراني- على هدي الإسلام الذي ندعو إليه كقاعدة للفكر والسلوك والعاطفة والحياة.
أجرى الحوار : محمد البنعيادي
يقول الله تعالى : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}( الأعراف :96).
هذه الآية الكريمة تشير إلى القانون العام الضابط للحركة و للعلاقة بين الثقافة والتنمية من وجهة نظر إسلامية أو في الرؤية الإسلامية. ونحب في هذا الحوار أن نبسط معكم القول في هذا الموضوع حسب النقط التالية :
1- مفهوم الثقافة.
2- مفهوم التنمية.
3- علاقة الثقافة بالتنمية.
4- طبيعة الثقافة الإسلامية.
في مفهوم الثقافة
1- حداثة المصطلح والمفهوم : > لقد شاع منذ عقود مصطلح الثقافة في الدراسات العربية وكذا الإسلامية، وبحكم اهتماماتكم المشهودة بالدراسات المصطلحية، نرجو منكم إلقاء الضوء على هذا المصطلح ؟ < أول ما يسترعي الانتباه في مصطلح الثقافة كونه مصطلحا حديثا.ليس من الشائع في ما عرفناه من علوم قبل هذا القرن أو القرن الماضي، وإنما وفد ضمن ما وفد علينا في مرحلة الغزو التي لاتزال مستمرة، ولذلك هو أيضا لايزال مستمر اللفظ ومستمر المفهـوم، وحسبك أن لنا وزارة اسمها وزارة الثقافة.فاللفظ مقترح حديثا ليترجم ألفاظا أخرى تعبر كلها عن مفهوم واحد، مفهوم واحد له صور متعددة، ولكن أوسعها انتشارا هو الدي ينتمي في التصنيف العام إلى ما يسمى “علم الإنسان” عند الغرب. وعلم الإنسان في تصور الغرب العلم الدارس له، وتبعا لذلك فمفهوم الثقافة هو مجموع المعارف والعلوم والعادات والممارسات والسلوك ونمط الحياة التي تحكم وتطبع مجتمعا بعينه، وذلك موجود أساسا في أذهان أبنا ء هذا المجتمع، قد يدون بعضه وقد يعبر عن بعضه دون تدوين (ما يسمى بالثقافة الشعبية السائدة)، وقد لا يكون شيئا من ذلك وإنما هو واقع معيش نتيجة تصور هو الذي منه المنطلق، وهذه الثقافة هي التي تميز -في نظر أصحاب هذا المفهوم- مجتمعا عن آخر، والتي يزرعها مجتمع في مجتمع عبر عملية “التثاقف” -حسب تعبيرهم- أو هي التي يتحاور أحيانا على أساسها. هذا المفهوم الوافد، فبحث من بحث عن لفظ له في العربية فاقترح لفظ” الثقافة “.ويزعم سلامة موسى أنه هو أول من اقترح هذا اللفظ.
2 -غرابة المصطلح والمفهوم : > من خلال قولكم هذا، يبدو أنكم ترفضون مصطلح الثقافة ، فماذا تقترحون كبديل ؟ < حداثة المصطلح تجعله غير راسخ في ذاتنا وشخصيتنا ولغتنا بهذا المعنى، إذ لا ينفصل اللفظ عن المعنى في المصطلح والمفهوم نفسه، لأن هذا التصور عموما للمعاني التي تؤخذ من تفاعل الإنسان مع الأرض، وتُـزرع من جديد في الأرض، هذا المعنى كذلك جديد وغريب على الأمة الإسلامية. إذ أصل التلقي في هذه الأمة ليس من الأرض ولكن من الله جل جلاله. والتلقي أساسا من الوحي كتابا وسنة واسمه العلم، وهو هو العلم وما يستنبطه الإنسان منه أو ما يستطيع الوصول إليه نتيجة اهتمامه بتسخير الكون من حوله.ذاك كله إذا كان تحت هيمنة هذا العلم النازل من عند الله يصير علما وإلا كان ظنونا وتخر صات {إن هم إلا يخرصون) [الأنعام :116)، {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم}(النجم : 29).علم السطوح والقشور، علم الأشكال، العلم الذي هو الحق المحض الخالص هو الوحي وما اشتق منه واستنبط هو من جهد البشر، وعلميته تابعة لمدى انضباطه للرؤية الموجودة في العلم الأصل ومدى التزامه بالضوابط التي حددها ذلك العلم الأصل .
3 – محاولات التأصيل للمصطلح والمفهوم : وإذن، فاللفظ الأصيل غير المؤصل إنما هو “العلم” :وهذا اللفظ الذائع الشائع ( ثقافة ) حاول من حاول أن يؤصله، وهناك جهود طيبة لتأصيله أي لاستحداث أصل له وربطه بأصل ما من جهة اللغة على أساس أن مادة “ثقف” تدور على معان أبرزها التقويم والتهذيب، وإلا ففيها الإمساك والمنع والحذق والفطانة، ولكنها بصفة عامة لا تتجه إلى الجانب العلمي النظري لكن تتجه إليه مطبقا في الواقع، ولهذا قلت إن البعض حاولوا بجد أن يؤصلوا هذا المفهوم انطلاقا من أصل الاستعمال القرآني أو الحديثي أو الاستعمال اللغوي العادي في كلام العرب، ولكن تظل المحاولة والمحاولات بصفة عامة حتى الساعة غير كافية وغير منتجة الإنتاج المطلوب لأنها تنطلق من أساس هو أن هذا الواقع ينبغي أن يُقبل وأن يبحث له عن أصل. وهذا المنطلق بصفة عامة في العلاقة بثقافة الكافر، في العلاقة برؤية غير المسلم، هذا المنطلق بصفة عامة يقتضي التسليم بالأساس ثم بعد ذلك يقتضي الدخول في الإطار الذي رسمه الآخر، وبعد ذلك تبدأ المحاولات في تحسين ما هو بداخل الإطار، ولكن الإطار العام يكفي للعزل،إذ الوضع الطبيعي للأشياء هو أن تنبت نباتا طبيعيا من أصولها وجذورها، فهذه هي المواليد الشرعية للمفاهيم الحضارية. وإذن الثقافة بالمفهوم المستهلك الآن المستعمل الذائع الشائع لا نتعجب إذا رأيناها غريبة الوجه واليد واللسان، إذا رأيناها غريبة عنا فلا نتعجب أن نرى ما يصنف ضمن دائرة الثقافة في التلفزة أو في الإذاعة أو فيما يدخل تحت اختصاص وزارة الثقافة في العالم الإسلامي بصفة عامة لأنه مفهوم مسطر في الأصل، ولا يزال يمثل استمرار الغزو المصطلحي واستمرار الغزو المفهومي أيضا،وإن وزارات متعددة الآن أو قل اختصاصات متعددة لو نظرنا إليها من النظرة الأصل من جهة العلم لاجتمعت وما افترقت. هذه كلمات أو نظرات في مفهوم الثقافة.
فــي مفــهوم التنمية
1- تنمية ماذا ؟ > هل الموقف نفسه تقفونه من مصطلح [ التنمية ]؟ < أهم الأسئلة في نظري عن هذا المفهوم لا تتجه إلى ما هو أفضل لفظا ومعنى كما كان الأمر في الثقافة من قبل، إذ ذلك اللفظ-لفظ الثقافة- جاء ليزيح شيئا آخر، ينطلق من تصور مغاير، بينما التنمية لفظ اشتق اشتقاقا عربيا عاديا في مجال الترجمة ليدل على عملية النمو الإرادية :نما الشيء،وينميه، جعله ينمو ويزداد ويكبر، وهذا المعنى السائد الشائع أيضا الذي هو تنمية الموارد والثروات بصفة عامة، وتنمية قدرات الإنسان في تسخيرها للكون من حوله بصفة خاصة، وما ينتج عن هذا الأمر من وسائل في البر والجو والبحر، من وسائل التسخير التي تدل على نمو قدرات الإنسان على هذا التسخير، وهذه التنمية من حيث لفظها لا تثير هذه الأشياء، لا تثيرها بهذه الضخامة، نعم في المضمون سنختلف ؟هل المقصود بالتنمية ما يتعلق بشخصية الإنسان وقدراته، أم ما هو حول الإنسان من أشياء في علاقتها بهذا الإنسان. إن الثروة البشرية هي أعظم ثروة،وإن الذي يحد من نسل الإنسان أو الذي يذهب في اتجاه تحديد نسل الإنسان ويكثر من الأبقار ومن الأشجار و من الأطيار ما ترك من الجهل شيئا. إن الذي يسخر ما سواه هو الإنسان وليس ما سوى الإنسان هو الذي يسخر الإنسان،والإنسان حين يخرج إلى الوجود يخرج في غاية التزود بكل اللوازم لإحداث فعل التسخير في هذا الكون ، {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة}(الملك23 : ) إنها العناصر الثلاثة التي ركز عليها القرآن أكثر مما ركز على ما سواها والتي تشير إلى وسائل الاستقبال، بالإضافة إلى الوسيلة الضخمة التي هي وسيلة التحليل والتعليل المنطقي، هناك وسائل لجمع المعطيات وهناك وسائل لاستثمار المعطيات واستخراج ما ينبغي استخراجه منها : المسموعات والمرئيات أو المبصرات والمحسوسات،. بصفة عامة يعني هي مجال لاستخلاص المعلومات، مجال لجمع المواد الخام للمعلومات، لكن الوسائل التي بها يتم استثمار تلك المعلومات مجموعة وتوظيفها معا، هذه بها يتميز الإنسان عن غيره من الحيوان وهي التي لها صلة بالإيمان بالغيب بالمعنى الإيماني أي التي تميز إنسانية الإنسان عن حيوانية الحيوان، وإلا فمن عرف الإنسان بأنه حيوان ناطق فقد اعتبر الإنسان حيوانا منذ البداية. ومنذ تلك اللحظة عدل الإنسان عن إنسانيته،أضيف إليه النطق أم لم يضف، والصواب أنه منذ البداية كائن متميز، {إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} تميز كامل في الخلق والخلق. والنظرة المادية هي التي جعلت هذا الإنسان حيوانا،ولذلك لا عجب أن نجد أفكارا كأفكار دارون وفرويد ودوركايم، لاعجب، لأن الحيوان يتعامل فقط مع المحسوسات التي هي الأساس في حياته، ولا يستطيع تجاوز المحسوس إلى ما سواه، لكن التنمية لا تستطاع بالوقوف عند المحسوس،لابد من استثمار المحسوس للوصول إلى ما ليس بمحسوس،لإحداث عملية التنمية.
إن صلب الموضوع والأساس في القضية هو الإنسان، هو الإنسان نفسه الذي يؤثرفيما سواه، نعم قديتأثربغيره، ولكن موقعه الطبيعي هو أن يؤثر، وإنما يتأثر من جهة واحدة في الأصل هي جهة الخالق، وهذا هو الأصل فيه، أما أن يتأثر بما هو أدنى منه وما هو مسخر له، وما خُلق إلا له فهذا غير منطقي {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}(لقمان : 20) {خلق لكم ما في الأرض جميعا}(البقرة : 29)، فأن تصير هذه الأشياء هي المُمْلِية،، سواء كانت من المخلوقات التي وجدها الإنسان أم من المخلوقات التي صنعها، كحال المال اليوم الذي يوزن به الإنسان، بدلا من أن يوزن المــال بالإنســان، فهنا نختلف اختلافا جذريا، لاختلاف المنطلق واختلاف الرؤية، فإذن المدار في التنمية على الإنسان من جهة تزكية شخصيته هو وتنميتها، ذلك هو تعبير القرآن عن التنمية، أي إن تنميته لشخصية الإنسان هي التزكية، وهو تعبير جميل لأن النمو يدل على شيء واحد هو ذات النمو بينما التزكي لا يدل فقط على النمو، وإنما يدل على نوع هذا النمو، فهو نمو زكيٌّ وليس برديء ولا قبيح،أي إن هذه التزكية تنمي شخصية هذا الإنسان، تنمي في الإنسان إنسانيته، تنمي في ابن آدم آدميته، وابن آدم ابن النبي الرسول ابن المهدي الراشـد، آدم عليه السلام الذي أوتي الهدى. هذه التزكية تنمي الشخصية من هذا الجانب ثم تنمي في الإنسان الجانب الآخر، الذي به يؤثر فيما سواه، فيسخر ما سواه في الوظيفة الأساسية من خلق هذا الإنسان وهي العبادة، أي ينمي قدرات الإنسان على التسخير ؛ ولكن هل موضوع هذه التنمية هو الإنسان من جهة كونه ذا نفس طيبة أو خبيثة، ومن جهة كونه إنسانا قادرا على التأثير فيما حوله والتأثر بما حوله، أم إنه الإنسان متأثرا من جهة و مؤثرا من جهة أخرى، لكن ببعد واحد هو البعد الجسدي المادي، هذا أمر في غاية الأهمية إذا تأملناه. إن مراجعة شاملة يجب أن تتم على آدمية الإنسان، مراجعة شاملة للتاريخ والمفاهيم الكلية، كالحضارة والثقافة. إننا في تاريخنا نقول -تبعا للاستشراق- إن القرن الرابع الهجري هو عصر الازدهار الثقافي والازدهار الحضاري، ذاك مقياس مادي شَيْئِيٌّ، أما بالمقياس الآدمي فإن أزهى العصور هو عصر الرسول وعصر الخلفاء الراشدين من بعده،هو الذي ارتفع فيه معنى الإنسان إلى درجة عالية، فتحضر الإنسان، أما بعْد ذلك فتحدر وانحدر.
2- الـتـنـمــــية لمـــاذا ؟ أو هدف التنمية. > لكن ما هو هدف التنمية من المنظور الإسلامي؟ >> هل ننمي من أجل أن نصبح وحشا ضخما كالنظام العالمي الجديد، يستطيع أن يمص ما أمكن من الدماء في مختلف أنحاء العالم، ويغرز خراطيمه في نقط متعددة في الكرة الأرضية وفي أجواء العالم، ألهذا ننمي؟ كلا ثم كلا، إن الهدف من التنمية هو أن نرفع مستوى الإنسان إلى معنى الإنسانية، أي نرفع إنسانيته بالتعبير المتداول اليوم، وأنا أفضل أن نرفع” آدميته” لأن لفظ” الآدمية” عندي أفضل وأبعد معنى من لفظ “الإنسان”، إذ يغلب- ولا أقول دائما- على لفظ الإنسان في القرآن الكريم أن يرد في سياق الذم، قلما يرد “الإنسان “في القرآن في حالة طيبة، فهدف التنمية الحقيقية في الرؤية الإســلامية هو تحصيل ما يسـعد به الإنسان هنا وهناك، أو لنقل السعادة، الآن يقال الرفاهية الاقتصادية، الرخاء الاقتصادي،الأمن الاجتماعي، السلام العالمي… وهذا الكلام بصفة عامة نعلم جميعا، أن فيه الكيل بمكاييل كما يقال، فالسلام سلامك وليس سلامي، أي سلامك يعني حربي، وأمنك يعــــني خوفي. .. أقول : السعادة التي في ظلها- عمليا- يعيش الإنسان الفرد والإنســـان المجتمع، والمؤمن وغير المؤمن حالة من التوازن العام التي بها يشعر بمقدار من الراحة، فإن كان كافرا فذلك حسبه والدنيا جنة الكافر، وإن كان مؤمنا نَعِمَ بما هو أعظم وذلك يوم القيامة، وهذا الهدف لا يتحقق أبدا انطلاقا من رؤيا ناقصة لمفهوم الإنسان. الإنسان الآن في علم الاجتماع أو في علم النفس في النظرة الغربية،، أو في غير ذلك بصفة عامة ليس هو الإنسان الذي نعرف نحن انطلاقا من الرؤية القرآنية، شتان بين الإنسانين، وبسبب ذلك شتان بين ما يصدر عن الأول وبين ما يصدر عن الثاني، فتحصيل السعادة هنا يحتاج إلى شروط كثيرة تعتبر وسائل .
3 – التنــمية بمـــاذا ؟ أو وسـيلة التنـمـية: > إذن ما هي هذه الشروط ، ما هي وسيلة التنمية في نظركم ؟ >> التنمية بالمعنى الذي تحدثنا عنه لا بالمعنى المادي الخالص، لا تتم بالسيطرة على الطاقة المائية والطاقة الكهربائية فقط، وإنما تتجلى أكثر ما تتجلى، زيادة على التسخير والتمكين، في نوع التوظيف لهذه الطاقة، هنا تتجلى التنمية الحقيقية، و ها هنا يأتي الهدف الكبير لهذا الدين الذي خلق من أجله ابن آدم، حتى قيام الساعة وهو العبادة، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56). والعبادة لا معنى لها إذا اقتصرت على الأشكال دون استقرار خشية الله في القلب وتقواه لأن الغاية من العبادة التي هي غاية الخلق شيء آخر {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم}(البقرة : 21) لِشَيْءٍ آخر هو:{لعلكم تتقون}.والتقوى أيضا ليست مرادة في حد ذاتها،وإنما هي مرادة لشيء أعظم أيضا هو الرحمة، ولا شيء بعد الرحمة {واتقوا الله لعلكم ترحمون}(الحجرات : 10) والرحمة هي ما طلبه الأنبياء والصديقون {ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك}(الأعراف :151) {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}(الأنبياء :86 ) >ولن يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال : ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته<.أو كما قال . فهذه السعادة التي تحدثت عنها، لا تحصل إلا بوسيلة العبادة، لأن هاته العبادة ضُبطت ممن خلق الكون، ضُبطت ضبطا مدققا من خالق الكون، حين كان يشرع كان واضعا في حسابه سبحانه وتعالى، القَبْل والبَعْدَ، وما كان وما سيكون، وما فوق وما تحت، والباطن والظاهر وكلّ شيء، ما لاتعلمه أنت، وما لا أعلمُه أنا، وما لا يعلمُه هذا القرن وما لاتعلمه القرونُ القادمة، كل ذلك معلوم عند الله عز وجل، وحين شرع، شرع على أساس ذلك، وما لم يُكْتَشَفْ في الإنسان حتى الآن. في الإنسان مجاهيل ضخمة جدا جدا {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}(الداريات :21). العلم بالمعنى الشائع اليوم (العلم المادي) مازال يتغلغل ويواصل الحفر في أجواء الفضاء للإنسان، محاولا الوصول إلى بعض المعلومات، وسيظل قاصرا لا بالنسبة للإنسان، ولا بالنسبة للكون من حول الإنسان، برغم التقريب الشديد والتكبير الشديد، الذي وصلنا إليه،كلما حصل ذلك اتسعت دائرة المجهول، لأنه على قَدْرِ علم الإنسان تتسع دائرة جهله. فهذا التشريع للعبادة ضَبَط الإنسانَ ضبطا تامًّا من الخارج والداخل ضبْطًا يضمن فيه جميع الحقوق بسبب فَرْضِه جميع الواجبات، إد العلاقة بين الحق والواجب، علاقةُ تلازم، بل ما هو واجب على إنسان هو حق لآخر عليه،وما هو حق له على آخر هو واجب على ذلك الآخر، فلو اشتغلنا وجعلنا الناس يشتغلون بأداء الواجبات لاسترحْنا كثيرا من المطالبة بالحقوق، وإن النكسة كبيرة جدا في نقل اهتمام الناس بالمطالبة بالحقوق بدل شغلهم بأداء الواجبات، لأن الذي يشتغل بطلب الحق يستريح والذي يشتغل بأداء الواجب في نصَبٍ (في تعب) لا يستريح وحين يؤدي الواجبات تلقـائيا يضمن حـــق الّآخر تلقائيا،ويا ليت قومي يعلمون في الأحاديث النقابية كيف أن هذا الأمر معكوس منكوس في العالم كله، ولذلك حين قال الرسول : >ستَكُون بعدي أثَرَةٌ…قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : تؤدُّون ما عليكم (الواجبات) وتسألون الله الذي لَكُمْ< تسألونه بسبب وبغير سبب هذا موضوع آخر حسب الظرف وحسب القدرة، ولكن تؤدون ما عليكم هي الأُولى وبها تترتَّب أمورٌ كثيرة. فإذن العبادة بمفهومها الشامل، لا بمفهومها الضيق الصغير، العبادة التي هي وظيفة الخلق، العبادة التي تجعل جلستنا هاته عبادة، وتجعل استماعنا عبادة، وتجعل نطقنا عبادة، وتجعل إبصارنا عبادة، تجعل كل فعل نفعله وكل خاطرة تخطر ببالنا عبادة، إما للرحمن وإما للشيطان. 4 – مم تـنـطـلق التـنــمية ؟ أو منطلقات التـنمية: وعليه، فمنطلق التنمية الذي تبتدئ منه الحركة في الاتجاهات كلها، هو شيء بسيط وعظيم، شيء واحد اسمه -العلم- إذا حضر، حضر ما سواه، وإذا غاب، غاب ما سواه، خاصة إذا نظرنا إليه بالمعنى الذي تقدم أي أن العلم هو علم الوحي، لأنه المهيمن على ما سواه من العلوم، والعلوم أصناف ثلاثة :
1- العلوم الشرعية.
2- العلوم الإنسانية.
3- العلوم المادية.
واليوم، نظرا لطغيان المادة، العلم المادي هو الذي صار يطلق عليه لفظ “العلم”،لذلك سميت كُلِّيات العلوم. ولكن الوضع الطبيعي للأشياء هو أن العلم علمُ الوحي، الذي فيه اليَقين المطلق، وفيه الحقُّ المطلق، وهو الذي يهيمن على ما سواه، والتفكير في العلوم الإنسانية يجب أن يكون من داخل دائرة الوحي، والتفكيرُ في العلوم المادية من جهة التسخير خاصة إنما ينضَبِطُ بعلم الوحي، قد يصل الكافر إلى الحقائق وهو واصل في الطاقات وفي غير الطاقات ولكن التوظيف الذي تحدثتُ عنه، ونوع التوظيــف ذاك لا يتم إلا بعِلْم الوحي، هل بالذّرة نسهّل للناس العيش أم ندمّر الكون ؟هل بالطاقة الذرية وكل أنواع الطاقات (وسائل التسخير) هل بها نعبد الله أم بها نعْبد الشيطان؟ فالمنطلق إذن هو العلم، والعلم علمان :
< علم الوحي الذي تحدثنا عنه.
< وعلم يليه في الرتبة له أهمية كبيرة في منطلق التنمية وهو علم الكون، لأنه عندنا عِلْم القرآن وعلم الأكوان، الأول يستخلص بالتدبر والثاني بالتفكُّر، بكل أشكال التفكُّر ومنها التجربة والملاحظة، علم الكون هذا في جانب الماديات أساسيٌّ للتسخير، أساسي لتنمية ورفع قدرات الإنسان على التسخير، فإذا أعْمل فيه النظر بما يلزم له، ووقع به الاهتمام، فإن النمو يحصُل بسرعة، لأن الإنسان مثلا إذا حمل بنفسه شيئا بوسائله الذاتية فإن لذلك حدا، لكن بأشكال الرَّوافع العصرية تتغيَّر قدرةُ الإنسان، إنها نفس القدرة لكنها نَمت، كيف نميت؟ بتركيز النظر بالتفكير في هذا الكون ونواميسه وسننه ونظامه، فإذا علمت طبائع الأشياء كما خلقها الله سبحانه وتعالى علمت كيفية تسخيرها. فإذا لم ينظُر في ذلك لا يتم علم، وإذا نظر نظرا صحيحا يتم العلم، حصول العلم. ويبقى التوظيف الذي يتحكم فيه العلم الأول (العلم الشرعي)، قد يكتشف العالم المادي كشوفاتٍ عظيمةً جدا ولكن يمكن أن يوظفها توظيفا ضارًّا جدا. علاقة الثقافة بالتنمية > بعدما عرفتم الثقافة – أو العلم حسب رأيكم -والتنمية، ما هي طبيعة العلاقة الممكنة بينهما؟ >> إنها علاقة الفكر بالسلوك، علاقة لها صورتان كبيرتان: -علاقة سلبية. -علاقة إيجابية. < العلاقة السلبية/التثبيط : ينتج عنها موت الإنسان ولا نقول نُمُوه بل قَتْله. وقد عبر عن ذلك أحدهم متحدثا عن البنيوية ب” فلسفة قَتْل الإنسان”.
إن الإنسان الموجود الآن فيه الميت وفيـــه الحي، وإن الأمواتَ أكثر من الأحْياء. القرآن صريح في هذه النقطة حينما يقول : {أَوَ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا َيْمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ في الظُّلُمَات لَيْسَ بخَارِجٍ مِنْهَا}(الأنعام : 122) فالموجود في الظلمات ميتٌ، لأنه لا يستطيع تبيُّن شيء بوجوده في الظلمات، لا يرى الأشياء بأحجامها الطبيعية لا يُبْصِر لاَ شرقا ولا غربا ولا يمينا ولا يسارا ولاتحت ولا فوق، إنه ضالٌّ مُضِل، إذا كان العلم الذي يُغذَّى به الإنسان عبر وسائل الإعلام والتثقيف، عبر وزارات الثقافة والإعلام، إذا كان ما يصدر عنها يؤدي -بعد أن يُخْزن في عقل الإنسان-إلى أن ينمِّيَ الشخصية الإنسانية الآدميةَ ويؤدي بها إلى تنمية قُدرة الإنسان على تسخير الكون لصالح الإنسان فأبْشِر، واعْلَم أن هذه العلاقةَ طبيعية. وإذا لم يحدث شيءٌ من هذا أو يحدُث بعضُه في صورة متخلفة فالخَلَـُل عـلـى قـدر الخلل. اعتبرها مثل حالات القلوب : القلب الحيّ، والقلب الميّت، والقلب المريض، الإنسان شبيه بهذه الصور: فإذا كانت المعلومات التي بُثَّتْ فيه قاتلة لشخصيته فهي علاقة سلبية من جهة نوع العِلم الذي يُغَذِّي هذا الإنسان، فبدل أن يرفعه وينمِّيه فإنه يخْفضه ويُدْنِيه أي بدل أن يزكِّيه يُدسيه. هذه العلاقة تُعتبر سلبيةً سواء جاءت من أن الشيء غير صالح، فأدَّى إلى عدم صلاح النّتيجة، أم أن الشيء المرسل صالحٌ ولكن المتَلَقِّي لا يَسْتَقْبِل،. وبذلك تبقى العلاقَةُ سلبيةً فلا انتفاع. وتبقى الحالات : مرضيةً أو موتًا أو تُلْحق بالموت. < العلاقة الإيجابية /التنشيط :وهي العلاقة التي أشار إليها الرسول ، عندما تحدّث عن الطائفة الطيبة (مثَلُ ما بعثني به الله من الهُدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قَبلت الماء (أولا هو ماء ثانيا قُبِلَ ) فأنبتت الكلأ والعشب الكثير). وتكون العلاقة إيجابية بين “الثقافة” والتنمية حين تكون تلك “الثقافة” أو العــلم غير مغيّرة لواقع الكَوْن كما خلقه الله،أي غير مُحْدِثة فيه أمرَ إبليس {ولأَمَُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الّله}(النساء : 119) خَلْق الله الذي هو الفطرة {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخَلْق الله ذلك الدين القيم}(الروم : 30) إذن فإما أن يكون هذا العلم منسجما مع هذا الخلْق موظِّفًا له في نفس توجه وجوده، أو أن يكون بعكس ذلك، وتلك هي الكارثة. في طبيعة الثقـافة الإسلامية > ما هي مظاهر العلاقة التنشيطية التي تتحدثون عنها ؟وما هي طبيعتها ؟ إنها في الأساس طبيعة تنموية ؛لأن العلم الشرعي الإسلامي طبيعته تنْمَوِيَّةٌ ؛هذا العلم (الوحي) إذا أُرْسِل أو استُقْبل يقوم بوظائف أساسية:
أ- يحرِّر ولا يعبِّد : يحرر عبد الله مما سوى الله، مثل ما قال ربعي بن عامر :”جئنا لنُخْرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.” إنها ثقافة محرِّرة تجعل الإنسان حرًا بعبوديته لله، وعكس ذلك إن عَبَدَ باستقلاله عن الله سيكون عبدًا لسوى الله شاء أم أبى، فلا فراغ في الكوْن، ولا فراغ في القلب، ابن آدم شاء أم أبى إما يعبُدُ الله، وإما يعبُد غَيْر الله، فلا فراغَ ولا توسط، حتى الذي لا يعبد مالا ولاشهوة ولا جاها، فإنه يكون عَبْد نفسه {أرأيت من اتخذ إلهه هواه}(الفرقان : 43). وحين يحرر الإنسان مما سوى الله، أي من مختلف الضغوط، يصير في أقوى أحواله، تصير قدرتُه في أعلى درجاتها من التوهُّج على الإطلاق، لأنه لا يشعر بغير الله، فوحده يمكن أن يواجه العجَب العُجاب، وهذا المعنى هو الذي سكن قلب رجل كبلال رضي الله عنه عندما كان يقول :”أحد، أحد” مواجها به كل الضغوط الموجودة. {اقرأ باسم ربك}، من تأمَّلها يجد نفسه قادرًا على أن يواجه بها كُلَّ مأمور به شرعا، ولو ظهر لك أنه مِثْلُ جبل لأنك لا تواجهُه بك، بحولك وطوْلك وإنما بحول الله وقوته، ولذلك تصير مضروبا فيما لا نهاية بتعبير الرياضيِّين.
ب- يعمر ولا يدمر : وهو ما تحدثنا عنه في إطار نوع التوظيف والتسخير. لماذا ننمي ؟ لإسعاد الإنسان الذي بسعادته يسعد ما سواه. يقول تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 107) المسلم الحق رحمةٌ، على قدر حلول معنى علم الوحي فيه، يكونُ حُلول معنى الرحمة فيه، وتصير بذلك الرحمة معنى شاملا للحيوان والنبات والبشر والحجر والعدو والصديق. وأوسع المعاني هو معنى الرحمة في أسماء الله الحسنى {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}(الإسراء : 110). فهي ثقافة معمِّرة بالمعنى العام، للكون وللأرض بحكم أنها دافعةٌ للعبادة. والثقافة بهذا المعـنى، ما أشبهها بلفظ (الشريعة) ولذلك أحبِّذ لفظ الشريعة بدل “الثقافة” في هذا المقام.
ج- يرفع ولا يضع : إذا كان معنى التحرير يفجر الطاقات، ومعنى التعمير يوجه ذلك التفجير، فإن معنى الرَّفْع يُشْعِر بالأمانة ويؤهِّلُ للشهادة. قال الرسول >اليد العليا خير من اليد السفلى< تأمل هذا المعنى على عمومه : المسلم في موقع العطاء، موْقِع الإرسال، لا في موقِع الأخْذ والاستجداء. إن وضعنا الفردي والجماعي الآن غريبٌ عن الحس الإسلامي، هذه الأمة أمة الشهادة على الناس، كيف يمكنها ذلك وهي تشهدُ من تحت ؟ هذه الأمة رفعها الله بالكتاب، ووضعها في موقع عليٍّ : >إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين<، من علم ما فيه وعمل به رفع {يَرْفَعُ اللهُ الذين آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ ُأوُتوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} وإذا لم يحدث هذا يقع الخفض،والخفض تدسية.
كلمة أخيرة إن المنطق الذي يحكُم في التنمية دارَ الإسلام ليس هو المنطق الذي يحكم في التنمية دار الكفر، لماذا؟ لأمر واحد بسيط هو أن المسلمين حملهم الله الأمانة، ووضع في أيديهم الرسالة، وغيرُهم لم يحمل هذه الأمانة وإنما ينتظرُ أن تصل إليه، فذاك يعيش بمنطق الغاب والحيوان. وهذا المفترَضُ فيه أن يعيش بمنطِقِ الآدمية، فيصير رحمةً للعالمين، لذلك حين ينتكس، فبدل أن يأخذ العلم من مصدره يأخذه من غَيْره، ولذلك يُعاقب، والآخر لا يعاقب على ذلك لأنه غير مكلّف، والمكلفون الآن بالشهادة على الناس بأمانة الإنسانية بصفة عامةٍ هم المسلمون لو يَعْقِلُون.