عن علي رضي الله عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكث بمخصرته، ثم قال : >ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة< قالوا : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال : >اعملوا، فكل ميسر لما خلق له< وذكر تمام الحديث، متفق عليه.
هذا الحديث بوب له البخاري رحمه الله تعالى فقال : >باب موعظة المحدث عند القبر، وقعود أصحابه حوله< ثم ساق آيات في الترجمة وهي قوله تعالى : {يخرجون من الأجداث} وقوله تعالى : {بعثرت} وقوله تعالى : {إلى نصب} وقوله تعالى : {ينسلون}.
قال الزين بن المنير رحمه الله تعالى : مناسبة إيراد هذه الآيات في هذِه الترجمة للإشارة إلى أن المناسب لمن قعد عند القبر أن يَقْصُرَ كلامه على الإنذار بقرب المصير إلى القبور ثم إلى النشر لاستيفاء العمل.
الموعظة في المقبرة كما قال الزين بن المنير تقتصر على الإنذار بقرب المصير إلى القبور لتحريك الهمم إلى خير العمل وذلك في بلاغة وإيجاز، وحُسْنِ موعظة تأخذ الأسماع، وتستولي على القلوب، وتبلغ مبلغها في النفوس، فتثير فيها الرغبة والرهبة، بلا تقنيط من عفو الله ورحمته، ولا تأمين من مكر الله وعذابه، فعلى واعظ القوم في المقبرة أن يكون خفيف الظل ولا يثقل بكلام طويل ينسي آخره أوله فتظيع فائدة الموعظة في أجواء المقبرة التي هي الأنفع للمشيعين تردهم عن ذنب ومعصية، وتحركهم إلى طاعة وتوبة، وعلى الواعظ أن يكون في هيئة خاشعة يؤثر فيها بلسان حاله قبل التأثير بلسان قالِه، فقد نكس النبي صلى الله عليه وسلم رأسه عند موعظته، أي خَفَضَهُ إلى الأرض على هيئة الحزين المهموم، وجعل ينكت بمخصرته، وهي عصا صغيرة.
> ذ. عبد الحميد صادوق