جرت العادة أن أكتب تقديما للحالة التي سأذكرها. وتوطئة للموقف الذي سأقدمه بين يديك أيها القارئ الكريم. لكني رأيت ا ليوم ألا أتأخر عنك في إيراد هذا الموقف، وإبراز هذه الحالة من أحوال عبد الله بن المبارك رحمه الله، تاركا لك أنت أن تضع التوطئة، وتكتب التعقيب، بأفعالك لا بأقوالك، فأقول :
ذكر عياض رحمه الله في ترتيب المدارك قال :
روي أن عبد الله بن المبارك دخل الكوفة وهو يريد الحج، فإذا بامرأة جالسة على مزبلة وهي تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف على بغله فقال لها : يا هذه، هذه البطة ميتة أو مذبوحة؟ قالت : ميتة، قال : فلم تنتفينها قالت : لآكلها أنا وعيالي. فقال لها : يا هذه إن الله تعالى قد حرم عليك الميتة، وأنت في بلد مثل هذا.
قالت : يا هذا، انصرف عني.
فلم يزل يراجعهاالكلام وتراجعه إلى أن قال لها : وأين تنزلين من الكوفة؟ قالت : في قبيلة بني فلان، ثم قال لها: وبأي شيء تعرف داركم؟ قالت : ببني فلان.
فانصرف عنها وصار إلى الخان، ثم سأل عن القبيلة فدلوه عليها، فقال لرجل : لك علي درهم. وتعال معي إلى الموضع. فمضى حتى انتهى إلى القبيلة التي ذكرت المرأة، فقال للرجل : انصرف، ثم دنا إلى الباب فقرع الباب بمقرعة كانت معه، فقالت العجوز: من هذا؟ فقال لها: افتحي الباب، ففتحت بعضه، فقال : افتحيه كله، ثم نزل على البغل، ثم ضربه بالمقرعة، فدخل البغل إلى الدار، ثم قال للمرأة : هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد هو لكم، وأنتم منه في حل في الدنيا والآخرة.
ثم جلس ابن المبارك مختفيا حتى رجع الناس من الحج، فجاءه قوم من أهل بلده يسلمون عليه ويهنئونه بالحج، فأقبل يقول لهم : إنه كانت بي علة ولم أحج هذه السنة. فقال بعضهم : يا سبحان الله، ألم أودعك نفقتي ونحن بمنى، ونحن نذهب إلى عرفات، وآخر ألم تشتر لي كذا، فأقبل يقول : لا أدري ما تقولون، أما أنا فلم أحج هذا العام. فرأى في الليل قائلا يقول له : يا عبد الله أبشر فإن الله قد قبل صدقتك وبعث ملكا على صورتك فحج عنك.(1)
هذه هي القصة، فتأمل وتدبر
——-
1- ترتيب المدارك للقاضي عياض 3/43