{النص القرآني : {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.(النور : 55).
الآية الكريمة تتمحور حول مسألة الاستخلاف في الأرض وإمكانية تحقيقه على أرض واقع الأمة الإسلامية.
وقبل التطرق للشروط لا بأس من إلقاء الضوء على :
مفهوم الاستخلاف وأنواعه
الاستخلاف هو : النيابة والوكالة أي القيام مقام الوكيل في تنفيذ أمره وقد ذكر في القرآن لفظ الاستخلاف 6 مرات، وورد في ألفاظ (خليفة، خلفاء، خلائف) 9 مرات ورغم ورود اللفظ في الذكر الحكيم قليلاً إلا أن دلالته على قدر كبير من الأهمية.
وينقسم الاستخلاف إلى نوعين (خاص وعام)
أ- الخاص : هو استخلاف فرد معين قال الله تعالى : {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق..}(ص : 26) وهذا القسم انتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ب- العام : وهو استخلاف الجماعة {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(البقرة : 30) وورد كذلك في السنة >إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون<(رواه مسلم).
وهذا النوع من الاستخلاف ينقسم بدوره إلى :
> استخلاف تكويني : ومضمونه أن الله تعالى أودع في الانسان -من حيث إنه إنسان إمكانية تحقيق الاستخلاف في الأرض {ثم جعلناكم خلائف من بعدهم لننظر كيف تعملون}(يونس : 65)
> استخلاف اجتماعي : ومضمونه هو إبدال وتغيير قوم بقوم آخرين ومن أدلته قول الله تعالى : {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون}(الأعراف : 133) ويضم هذا الاستخلاف الاستخلاف داخل الأسرة : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا }(سورة الروم) وداخل العشيرة : {وأنذر عشيرتك الأقربين} وداخل القبيلة والشعب {وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}(سورة الحجرات).
> استخلاف تكليفي : ومضمونه إظهار الانسان لربوبية الله سبحانه وتعالى وألوهيته في الأرض وذلك بالعبادة. وهذا القسم هو جوهر موضوع الآية الكريمة {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.
شــروط الاسـتــخــلاف
وكأن للوعد العظيم من عند خالق السماوات والأرض ثمَنٌ، وثمنه أن يعبد المسلمون ربهم حق العبادة، العبادة التي أمروا بها أي أن يخضعوا لمنهج الله بكل تفاصيله فإذا عبدوه تحققت هذه الوعود الكبرى التي تُحل بها مشاكل المسلمين.
والخضوع لمنهج الله يجب أن يكون خضوعاً شمولياً يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية ونهجه التفصيلي يبدأ من “يعبدونني”.
والعبادة طاعة طوعية ممزوجة بمحبة قلبية أساسها معرفة يقينية تُفضي إلى سعادة أبدية فإذا أخل الطرف الآخر بما عليه من عبادة الله، فالله جل جلاله في حِلٍّ من وعوده الثلاث : الاستخلاف، التمكين والأمن. فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى تعودوا إلى دينكم<. {والله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
وهناك آية تلقي الضوء على حقيقة هذا القانون. قال تعالى : {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}(سورة مريم).
وقد أجمع العلماء على أن تركَ الصلاة شيء وإضاعةَ الصلاة شيء آخر. إضاعة الصلاة لا يعني تركها بل تفريغها من مضمونها.. وقد لقي المسلمون هذا الغي.
والاستخلاف لا يكون إلا بالدين الذي يرتضيه الله لنا. أما إذا فهمناه فهما يختلف عن فهم الصحابة. فهمناه مظاهر، فهمناه خصومات. فهمناه تعصبات. فهذا الفهم لا يستحق أن نُنصر من خلاله.
وقد قال أحد العلماء البريطانيين هداه الله للاسلام كلمة رائعة : “أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الاسلامي اللحاق بالغرب على الأقل في المدى المنظور- لاتساع الهوة بينهما، ولكني مؤمن أشد الإيمان أن العالم سيركع أمام أقدام المسلمين لا لأنهم أقوياء ولكنَّ خلاَصَ العالم بالإسلام”.
والنصر والتمكين هو جائزة عظيمة لأهل الصبر والثبات {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض}(سورة القصص). وهو كذلك مقدمة لحمل الأمانة الربانية {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين}(سورة الأنبياء).
قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير : “أئمة أي قادة في الخير ودعاة إليه وولاَّةٌ على الناس. فلا بد من مقدمات اشترطها الرحمان لحمل الأمانة على اتباع الأنبياء والرسل قبل النصر والتمكين والاستخلاف وهذه الشروط هي : الإيمان، والعمل الصالح، والاختبار والتمحيص، أي تهييء الأجواء لاحتضان أهل الإيمان وأخيرا النصرة والتمكين. ولذلك فيمكن إجمال شروط الاستخلاف في ما يلي :
> الأول الإيمان الصادق الخالص لله تعالى وقد وضحه الله في قوله : {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}(سورة غافر).
> الثاني العمل الصالح المنبثق من هذا الإيمان الراسخ، لأن العمل الصالح هوعلامة صدق الإيمان في العقل والقلب {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض}(سورة النور).
> الثالث الاختبار والتمحيص : {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما ياتكممثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب}(سورة البقرة).
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال : >قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه دقة خفف عنه وما يزال البلاءُ بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة<(رواه الإمام أحمد).
وعلامة النجاح في الامتحان هو الثبات على الحق دون اتباع الهوى والشهوات. قال تعالى : {ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله}(سورة الأنعام).
> الرابع تهييء الأجواء : فلا بد من وجود حاضنة تحتضن أهل الإيمان والتقوى وهذه بداية الجائزة من الله تعالى في الدنيا حيث يُكرم الحق تعالى أولياءه بأنصار مخلصين يحبون أهل الإيمان ويسيرون في ركابهم، ويصبح الاسلام والاستخلاف في بلادهم رأيا عاما نابعا من وعي عام بصلاحية الإسلام وحده، والاستخلاف على أساسه.
ولقد هيأ الله سبحانه وتعالى لرسوله وللمؤمنين معه بعد رحلة اختبار وابتلاء وامتحان وصدق وصبر وثبات، هيأ لهم حاضنة طيبة في أرض طيبة . قال تعالى : {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون. والذين تبوؤوا الدار والايمان من بعدهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}(سورة الحشر).
ولا بد من وقفة قصيرة عند مسألة التهييء والاحتضان.
فالدعوة لا بد لها من هذه المرحلة لتحصل النصرة والتمكين وهي مرحلة تسبق مرحلة النصرة لاستلام الحكم ويقصد بالتهييء والاحتضان وجود جمهرة وحشد من شباب الدعوة المطبق للاسلام ويجب الاشارة أن هذ الرأي العام يشترط أن يكون نابعا من معرفة وفهم سليمين وحكيمين أي عن وعي عام بأفكار الدعوة الرئيسية وليس مجرد مشاعر جياشة تبرز وتنتهي بسرعة.
وكذلك بروز الاستعداد لدى الناس للوقوف بجانب حملة الدعوة وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل طلب النصرة لإقامة الدولة أي قبل طلب البيعة الثانية بإرسال مصعب رضي الله عنه لمدة عام كامل إلى المدينة فعمل على تهيئة الأجواء وإيجاد الرأي العام والاستعداد للوقوف بجانب الدعوة.
ثمرات الاستخلاف
ومن ثمار هذه الشروط :
- تحقق وعد الله بالنصرة والتمكين : وهي المرحلة الأخيرة حيث يمن الله تعالى على المؤمنين بأهل القوة والمنعة من أبناء هذه الحاضنة فينصرون دينه ويمكنون لأهل الايمان المخلصين. {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الارض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشركون}.
إن الناظر في أحوال عمل الدعوة يرى انطباق المقدمات التي تسبق نصر الله وتمكينه انطباقا تاما على المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنهم آمنوا بالله ربا وبمحمد رسولا ووقفوا وسط الشرك والصد عن سبيل الله صامدين ثابتين رغم كل أنواع القهر والجبروت والتسلط والتعذيب التي يعجز اللسان عن وصفها، وبذلك سطروا بصبرهم سيرة أتباع الأنبياء السابقين من أنصار عيسى عليه السلام عندما نشروا بالمنشار، وسيرة أنصار موسى عليه السلام عندما ذبح فرعون أبناءهم واستحيا نساءهم، وسيرة أصحاب الأخذوذ الذين أحرقوا في النيران ذات الوقود وسيرة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كبلال وخباب وعمار وياسر وسمية وغيرهم.
نعم لقد آمنت هذة الثلة الطيبة إيمانا طيبا وعملت عملا صالحا بحملها لهذه الأمانة لتمكينها في الأرض بالاستخلاف وصبروا على ذلك، وهاهي المكرمة الربانية قد بدأت تتنزل عليهم بامتداد الدعوة وقوتها وكثرة أنصارها وتهييء الحاضنة الكبيرة في أرض المدينة.
- تحقق و عد الله بالحياة الآمنة : {وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} لأن الأساس في الاستخلاف استخلاف الأمناء الأخيار الذين يقومون بنشر قيم الخير والعدل والأمن فلا تستقيم الحياة إلا بذلك.
هل ظهور الكفار تمكن أم تقلُّب؟
وتدفعنا الآية الكريمة إلى سؤال محير هو : هل الفاسق والكافر لا يُمَكَّن لهما في الأرض؟ وماذا عن دول أمريكا، وروسيا والصين في عصرنا، وعن الروم والفرس والفراعنة في الأقدمين؟ ألم يُمكن لهم؟. أليست أمريكا واليهود سادة العالم يضعون ما يشاؤون يأمرون ولا يؤمرون؟
الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى تأمل دقيق للآية الكريمة فهذه الأخيرة تخص التمكين للذين آمنوا إذا آمنوا، وتنزع التمكين عنهم إذا فسقوا وكفروا، والخطاب موجه لهم خاصة دون البشرية.
والذي يرجح هذا المعنى هو ان الكفار المشركين في القرآن، لا يعبر عن ظهورهم بألفاظ التمكين والاستخلاف، ولكن يعبَّر عنه بألفاظ ودلالات أخرى منها قوله تعالى في آل عمران : {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبيس المهاد}(آل عمران).
ويجب ملاحظة التقابل بين لفظ “التقلب” في البلاد في هذه الآية ولفظ الاستخلاف والتمكين في الأرض في آية النور. وكأن العمارة الحقيقية المكتملة حضارتها الشاملة الكونية لا يمكن ألا أن تكون بروح “الإيمان” والعبادة “وعدم الإشراك” أما عداها فمجرد تقلب في البلاد مهما كثر عددها ، أو طال أمدها..
واللاّفت للانتباه هو أن الله تعالى في آية النور وبعد آيتين رفع عنا حَرَجَ السؤال المحير الذي طرحته آنفا، وهو يعلم أنه سيحيرنا، وهو يعلم أن دولا مشركة وكافرة ستظهر في الأرض وستتقلب فيها فقال جل من قائل : {لاتحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبيس المصير}.
الـتـمـكُّــن لا يـتـحـقـق إلابالعبادة الجماعية
قد يوجد أناس يعبدون الله لا يشركون به شيئا، ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة، أي أنهم -في الظاهر-يحققون جميع شروط الاستخلاف ثم لا يكون التمكين. فهل هذا مناقض لوعد الله سبحانه؟ طبعا لا. فالله لا يخلف وعده غير أن العبادة عبادتان :
- عبادة فردية : تحقق للفرد السعادة في الدارين ولكنها لا تكون سببا ومقدمة كافية للاستخلاف في الأرض. وهذا محط أنظار جل المسلمين في الشرق والغرب.
- وعبادة جماعية : وهي التي تحقق السعادة للامة في الدنيا بالتمكين لها، وفي الأخرى برضى الله عنها، وهي طبعا مكملة للعبادة الفردية لا منفصلة عنها. وللأسف جل المسلمين اليوم يغفلون هذا النوع من العبادة وهي ذاتها سبب الجهاد، والضرب في الأرض، والتخطيط والوحدة. والاكثر اسفا أن العديد من الناس الذين يتعاملون مع القرآن الكريم ومع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام تعاملا مجزءا، لا يفرقون بينعبادة وعبادة، بل إنهم أحيانا يلغون العبادة الجماعية ويركزون على العبادة الفردية فقط وهذا سبب من أسباب الخذلان حتى وإن لم يشعروا، ويقينا لم يكن المصطفى عليه الصلاة والسلام كذلك ولا الصحابة الكرام ولا العلماء الراسخين في العلم عبر العصور.
ولا يتحقق الاستخلاف إلا بالتمكن التام من الاقتصاد، ملكا، وإنتاجا، وتصنيعا، وتوزيعا عادلا، وتنمية علمية شاملة، يشارك فيها كل أفراد الأمة وفق تخطيط محكم هادف، فالقوة العلمية والمالية إحدى مرتكزات الاستخلاف. وهذا ما يمكن أن يُسَمّى استخلافا اقتصاديا.
أما المرتكز الثاني للاستخلاف، فهو الاستخلاف السياسي، أي إسناد السيادة والسلطة المطلقة لله وحده، فلا تصَرُّف في أي شيء إلا وفْق ما شرعه الله تعالى.
وهل يمكن للمسلمين أن يُسْتخْلَفُوا اقتصاديا وسياسيا بدون عبادة جماعية؟! ذلك هو السؤال!! وذلك هو ميدان العمل الدعوي الذي يجب أن يجتهد في تحقيقه على كل صعيد، وبحكمة وعُمق فهم وكمال تجرُّدٍ وإخلاص.
ذة. هند المقري