ذ. محمد بن أفراعي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
معلوم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربى رجالا صادقين، باعوا أنفسهم لله تعالى خدمة لرسالة الإسلام الخاتمة، فقام هذا الدين بعد عون الله وتسديده، لذلك حكموا العالم ولانت لهم الدنيا، فكانت ذليلة بين أيديهم، لأنها لم تكن هدفهم ولا غايتهم، فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لم يجمعهم على مغنم عاجل أوآجل، إنه أزاح الغشاوة عن عيونهم، فأبصرت النور الذي أوصلهم إلى الحق الذي حجبت عنه دهرا، ومسح الران عن قلوبهم، فعرفوا اليقين الذي فطرت عليه، وحرمتها منه الجاهلية، إنه صلى الله عليه وسلم وصل البشر بربهم فربطهم بآصرة الدين العريقة والنسب الشريف والسبب الوثيق، فكانوا قبل ذلك في حيرة مسحورين، إنه صلى الله عليه وسلم وازن للناس بين الخلود والفناء، فآثروا الدار الآخرة على الدار الزائلة، وخيرهم بين أصنام حقيرة وإله عظيم، فازْدَرَوا الأوثان المنحوتة، وتوجهوا للذي فطر السماوات والأرض.
فحسب محمد صلى الله عليه وسلم أن قدم هذا الخير الجزيل، وحسب أصحابه أن ساقته العناية لهم فإذا أوذوا احتسبوا، وإذا حاربهم عبدة الطاغوت والأوثان لزموا ما عرفوا ووفوا بما وعدوا. والحرب قائمة بين الكفر والإيمان سينجلي غبارها يوما ما، ثم تتكشف عن شهداء وعن هلكى وعن مؤمنين قائمين بأمر الله وعن مشركين مدحورين بإذن الله.
وأغلب أولئك طائفة من الشباب ترعرعوا ونشأوا على ذلك التوجيه النبوي، فتدفق الإيمان في قلوبهم، كلما أمرهم بأمر إلا وائتمروا به وما نهاهم عن نهي إلا انتهوا.
فعندما أمرهم بحفظ الفروج وصيانتها عما حرم الله حيث قال في الحديث الذي رواه عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : >يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء<(أخرجه البخاري ومسلم).
تحققوا وتخلقوا بذلك، وعلموا أن مصلحتهم فيما أرشدهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن في الزواج عفة واستغناء عن الحرام بالحلال ، وفيه تكثير للأمة الصالحة القوية الحاملة للرسالة..
كما نجده صلى الله عليه وسلم قد حث الشباب على العبادة في الأطوار الأولى من حياتهم فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : >سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله< وذكر منهم : شاب نشأ في طاعة الله”.
ومن حرصه صلى الله عليه وسلم على الشباب أنه حضهم على اغتنام زمن الشباب، زمن القوة والعنفوان والبناء، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم وغيره ،عن ابن عباس رضي الله عنهما: >اغتنم خمسا قبل خمس -وذكر منها- وشبابك قبل هرمك< فاعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الشباب غنيمة وحث على إدراكه قبل فوات الأوان .
كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسؤولية الإنسان عن شبابه يوم لقاء الله حيث سيسأله ربه عن خمس منها : >عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟< في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ولما كانت فترة الشباب بهذه الأهمية التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم شمر شباب الصحابة عن ساعد الجد، وعملوا قصارى جهودهم لإعلاء كلمة الله، غير متوانين في ذلك لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يعترض سبيلهم شهوة أوشبهة، فبرزت نماذج منهم في مختلف المجالات، لو حاولنا الحديث عنهم بل عن الواحد منهم لاحتجنا في ذلك إلى أيام وأيام، لذلك سأكتفي بذكر بعض المواقف التي سطروها في حياتهم وبقيت خالدة تنور طريق من أراد الاهتداء بها والسير على منوالها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن عوف عن أبيه عن جده قال :بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما (أي أشد وأقوى)، فغمزني أحدهما فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل ؟ قلت نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي (أي شخصي) سواده حتى يموت الأعجل منا (الأقرب أجلا)، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله. وكانا معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت : ما لك يا أخي ؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج ، لعل الله أن يرزقني الشهادة .
قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهوابن ست عشرة سنة<(أخرجه الحاكم).
فالمتأمل في أحداث هاتين القصتين يجد أن الرابط المشترك في شخصية معاذ بن عفراء وعمير بن أبي وقاص هو حداثة سنهم الممزوجة بعلو همتهم وصدق عزيمتهم، ومعرفتهم بحقيقة الدنيا الفانية، وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تحقيق حلمهم الكبير الذي هو الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب رجل. فلذلك كانت نشأتهم على علم وبصيرة، فكانوا أعلاما وآيات من آيات الله الباهرات بين خلقه جميعا.
وإذا كانت مصلحة الأمة ونفعها لا يظهر في الجهاد فقط، فإنه يظهر في مجالات أخرى لا تقل أهمية عنه، وهي مجاهدة النفس وتزكيتها، وتربيتها وتعليمها. والبذل والعطاء في كل مناحي الحياة، كل حسب جهده وطاقته.
إذن على شبابنا أن يضعوا نصب أعينهم هذه النماذج من شباب الصحابة، يستلهمون منها الدروس في علو الهمة والتضحية والبذل والعطاء، والتعلم والتزود بالعلم النافع، والالتفاف حول العلماء الربانيين الراسخين الذين يوجهونهم أحسن توجيه وينوروا لهم الطريق حتى تسترجع الأمة عافيتها، ويستفيق شبابها وشيبها ليحملوا اللواء من جديد لقيادة العالم بروح الكون، الذي هو الوحي المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيعم العدل والسلام ويسير الكون سيره الآمن نحو رب العزة سبحانه وتعالى .
وفي الأخير يمكن طرح السؤال التالي : ما محل شبابنا اليوم من هذه القيم التربوية التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها أولئك الشباب من خيرة أصحابه، وما موقعهم من محبته، واتباع سبيله وسنته والاقتداء به؟.