واقعتان جديرتان بالتسجيل والقراءة والاعتبار.
أما الأولى فتتعلق بسائحين من أوربا: رجل وامرأته طافا بدراجتيهما جل المعمور وساقتهما الأقدار إلى المغرب وقد اختلطا بالمغاربة في الأسواق والمتاجر حتى ربطا علاقة تعارف وصداقة ببعض الإخوة بفاس، وكانت المرأة تتكلم اللغة الإنجليزية مع شيء من الإسبانية، وبذلك الشيء اليسير من وسيلة التعارف والتفاهم استطاع أخ فاضل أو إخوة أن ينفذوا إلى قلبيهما بحسن خلقهم وكرمهم وتطوعهم لخدمتهما وقد زاروا بهما مَنْ ظنوا أنه أقدر على التفاهم معهما واجتمع معهما نفر قليل من أساتذة الجامعة فكان التفاهم أكثر من خلال بعض اللغات الأوربية، وكان الحديث يدور حول الإسلام انطلاقا من توحيد الله والإقرار بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بجميع الأنبياء والرسل الواردة في الكتاب والسنة ومنهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى فمن لا يؤمن بهؤلاء الأنبياء فليس بمسلم بتاتا، ويجب أن نؤدي الفرائض ونطبق المعاملات الشرعية ونتحلى بالأخلاق الإسلامية ومع هذا البيان المجمل بقيت القلوب بعيدة عن رعشة التأثر والميل نحو الإيمان حتى هيأ الله لنا داعية صالحا وبليغا من بلد الزوجين نشأ نشأتهما وعاش مثل حياتهما وعانى معاناتهما وعرف حلو الحياة ومرها وهداه الله فأسلم وهو شاب في مقتبل العمر فأكب على القرآن الكريم وسرعان ما حفظه عن ظهر قلب وعاش في وسط إسلامي طاهر صالح فتشرَّب أخلاق الإسلام حتى صار إماما في بلده الأوربي يؤم بالمسلمين عربا وغير عرب ونال ثقة الجميع واحترامهم وآثر أن يتزوج مسلمة ويعيش معها في بلدها حتى ينشأ أبناؤه في جو إسلامي..
فلما اجتمع هذا الداعية الشاب الصالح مع الزوجين من بلده عرض عليهما الإسلام بسيطا نقيا موجزا مرتبطا بالله جل جلاله وبرسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعمق ولا تعقيد ولا بدَع ولا وسائط كنسية أو أشباهها، وكان هذا الداعية بَليغاً مؤثراً، جميل المظهر، نقي المخبر، صادق اللهجة، مشرق الطلعة، لا تفارقه ابتسامة طاهرة، ونظرات حانية نافذة، فاقتنع الزوجان، وكانت المرأة أشدّ اقتناعا وأعمقَ انجذاباً وأسرعَ استجابة لكنها تداركت قائلة للداعية لكنني أعمل أستاذة في كنيسة كاثوليكية وأخشى أن أُطرَدَ من عملي إذا علموا أنني أصبحت مسلمة. فأجابها بَلَدِيُّها الداعية قائلا: اسمعي يا أختي، إن الرزق ليس بيد الكنيسة وإنما هو بيد الله وتلا عليها بعض آيات من القرآن من ذلك قوله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}(الذاريات 51/22). {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب}(الطلاق 35/3).
فأجابت وقد انشرح صدرها:” إذن ما دام الرزق في السماء وبيد الله فأنا مقتنعة بالإسلام…” وفي صلاة العشاء منذ ثلاثة أسابيع: أعلنت المرأة وزوجها إسلامهما في مسجد صغير مبارك بعد صلاة المغرب
وأكرمني الله بحضور هذا المشهد المؤثر فازددت اقتناعا بأن الدعوة إلى الله في أوساط هؤلاء الغربيين تكون أجدى وأقوى إذا كان الدعاة إلى الله من جنسهم أو يتقن لغتهم ويفقه الإسلام ويحظى بأخلاق إسلامية مؤثرة مثل هذا الداعية الأوربي الصالح.
وتسمت المرأة باسم خديجة وتسمى الرجل باسم إبراهيم، ودعونا لهم بأن يرزقهما الله الذرية الصالحة فالرجاء أيها القارئ أن تقول: آمين إسهاما منك في فرحة هذه الأسرة المسلمة الجديدة.
وأما الواقعة الثانية: فإن أحد إخواننا الأحباء كُتِبَ له أن يلتحق بالعمل في أوساط القارة الإفريقية فاضطرّ أن يسافر إلى ذلك البلد ولم يتم الشهر الأول هنالك حتى اتصلت به أسرتُه تخبره بأن والده في مِصَحّة بالمدينة التي يقطنها في حالة مَرضِية صعبة ثم أخبروه أن والده يوجد في حالة غيبوبة تامة، وقد ركبوا له أجهزة التنفس وإنعاش القلب وغير ذلك، حتى أصبح على حافة الموت فاضطر الابن الصالح البار بوالده أن يعود إلى بلده ليجد والده في مرحلة حرجة من مرضه، وقد يئس الأطباء من شفائه فنصحوا الإبن بأن يرضى بقضاء الله الذي لا مَفَرَّ منه وصارحوه بالحقيقة الطبية أن والده في حالة موت حقيقي وإنما يعيش فقط بهذه الأجهزة ومن العبث أن يظل الرجل في هذه الحالة التي لا رجاء معها في الحياة لذلك نصحوه بأن ينقل والده إلى البيت في حالة الاحتضار أو الموت استعدادا لجنازته ودفنه، ومما قالوا له ليقنعوه: إننا بمجرد ما ننزَعُ عنه هذه الآلات سيلفظ أنفاسه لذلك ننصحكم التعجيل بنقله إلى البيت فلم يجد الإبن بدا إلا أن يوافق على نزع تلك الآلات، والاستسلام للمصير المحتوم الذي يتوقعه الأطباء، وقالوا له لا تُفاجأ بموت والدك بمجرد انتزاعنا هذه الآلات… فانتزعوها ولكن المفاجأة المذهلة أن الرجل والد أخينا لم يمت بل بقي النفس الطبيعي الرباني يعمل عمله فأخذوه إلى داره ووضعوه على سريره وذماء الروح ما يزال يتردد فيه وهذا الذماء أو بقية الروح صارت تنمو شيئا فشيئا حتى أصبح التنفس أحسن مما كان أيام الحرج من مرضه وهكذا استعاد الرجل تنفُّسه ثم وَعْيَه وبدأ يتحسن كل يوم… إنه لم يفارق فراش مرضه المزمن ولكن أعاد الله وعيه وتحسّن وضعه فأصبح في حالة طيبة قادرا على أداء فرضه من الصلاة يتحدث مع أهله وأولاده وأحفاده، وهكذا خيب الله علم الأطباء وتبين قصورهم وثقتهم في الطب ثقة عمياء… وهذا يذكرني بأستاذ فرنسي في الطب كبير كان يعالج سيدة مغربية وقد أحست منه أن مرضها عضال لا أمل في التخلص منه فسألته: ألا يوجد أمل في الشفاء، فأجابها وكان يهوديا بقوله: إن الأمل في الشفاء لا ينقطع والأعمار ليست بيدنا، فاتجهت السيدة إلى بيت الله وبعد أيام وأسابيع من العبادة والتضرع إلى الله وشرب ماء زمزم شعرت باختفاء تلك الأورام الخبيثة وعادت إلى طبيبها ليفحصها فحصا دقيقا ليجد أن الله سبحانه وتعالى قد شفاها شفاء تاما فألفت كتابها الرائع “لا تنس الله”.
أما قصة شيخ الدعاة إلى الله أخي ورفيق دربي أكثر من أربعين سنة في الدعوة إلى الله في ظروف صعبة، وأوساط صُلبة، ونوايا مضطربة، ونفسيات مرتبكة، فقد حلَّ به مرض مُضْنٍ وسمعتُ عند عيادته، مع إخوة بررة، طبيباً يقول لبناته الفضليات: إن حالة الفقيه حرجة جدا والأمل ضعيف فأخذه إخوانه بعد يومين وبعض أبناء أصدقائه الأوفياء القدماء إلى طبيب نطاس مؤمن… فعرض لهذا الطبيب الصالح سفر وإذا بطبيب آخر يقول لنا خذوا الفقيه ليموت في بيته فليس بينه وبين الموت إلا ساعات قليلة، وإذا بالطبيب الكبير يُتَلْفِنُ من الخارج ويوصي طبيبا من خيرة طلابه بأن يزيده الدم ويعطيه الأدوية الفلانية، فإذا بالفقيه ينتعش ثم يخرج من سرير المستشفى ليعيش بعد ذلك أكثر من أربع سنوات وتوفي رحمه الله عن عمر يزيد على التسعين بثلاث سنوات هجرية، وهكذا خاب الرأي المتعجل الذي ظن أن الأعمار بيد الطب….