د. عبد الحق ابن المجذوب الحسني
أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله.
مداخلتي بعنوان : “خلق القيم الديني” والتي هي عبارة عن بعض الصفات الحميدة التي ينبغي لكل من الخطيب، والواعظ والداعية إلى الله بصفة عامة الاتصاف بها إذا كان هدفه تقديم خدمة جليلة للمجتمع من خلال الوافدين عليه في بيوت الله لسبب جوهري واضح يتجلى في أن الإسلام دين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة، والسلوك القويم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ويوطد دعائم الفضيلة بين البشر، فوسمه ربه بأعظم وسام رفع به قدره عاليا في الأنام عندما خاطبه جل من قائل بقوله الأزلي الخالد : {وإنك لعلى خلق عظيم}.
والقيم الديني إماما وخطيبا وواعظا لا ينسجم مع هذا الدين الحنيف، ولا يرقى إلى مستوى الدعوة إليه، والتبشير بمبادئه ومثله، وتمهيد الطريق أمام الناس ليستضيئوا بنوره، ويستمتعوا بسماحته، وينعموا برحمته إلا إذا هذب طباعه وجمَّل أخلاقه، وقوَّم سلوكه، وتحلى بالآداب الشرعية العالية، حتى لا يرى الناس منه، ولا يأخذوا عنه إلا الخصال النبيلة، والخلال الجليلة، التي تشرفه وتشرفهم، وتزكي نفسه ونفوسهم، وتجمل حياته وحياتهم، وتسدد خطواته وخطواتهم على طريق الله المستقيم. وموقع الواعظ أو الخطيب في أمته يفرض عليه لكي يكون قدوة حسنة للناس في أخلاقه أن يتحلى بمكارم الأخلاق، ويتشبع بالشيم الرفيعة، ويتخلق بآداب الإسلام الرائعة، التي يأتي على رأسها الصدق والطهر والعفة والتواضع والحلم والرفق والرحمة. وأن يتحاشى الرذائل وكل الأخلاق السيئة، التي لا تناسب الإسلام والمسلمين، ولا تشرف الدين والمتدينين، وعلى رأسها : الكبر والغرور والجشع والأثرة والغِلظة والجفاء والحسد والرياء.
وإذا كانت هذه الأوصاف أبرز ما ينبغي الإقبال عليه من لدن المسلمين بصفة عامة، وخطيبهم وواعظهم بصفة خاصة، لتَمَسُّكِ كل منهما بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى، والقدوة الحسنة، فينبغي للقيم الديني أن يضع نصب عينيه هدف تقويم ما اعوج من أخلاق الناس، وتوجيه سلوكهم، وإرشادهم للتي هي أقوم، وبيان ما تضمنه هذا الدين من سلوك طيب، ومُثل عليا، ومع ذلك فإن نجاحه في مهمته هاته يكمن في مدى قدرته على أن يُشيع في قلب المؤمن، الخشية والطاعة والاستجابة، ومدى تطبيق ما يأمر به غيره على نفسه. ولتسْهُلَ عليه هذه المأمورية، فعليه أن يتصف (فضلا عما سبق) بمجموعة من الصفات أهمها : أن يكون عالما، ذكيا، ذا بصر بشؤون الحياة، قادرا على إحداث التأثير والتغيير في سامعيه، مسايرا للتطور والتجديد في الفكر والعلم ومشاكل العصر، متصلا بالمجتمع، متفاعلا معه، خبيرا بالناس، طبيبا لأرواحهم، مؤثرا بعمله وسلوكه أكثر مما يؤثر بقوله وتوجيهه.
إن رسالة هذا القيم الديني تتجلى في محاربة البدع والمنكرات بالحكمة والموعظة الحسنة، التي هي من أخلاق الأنبياء والمرسلين، والدعاة إلى الله. فعليه أن يقتفي آثارهم ويسلك سبيلهم حتى في لباسهم وهندامهم، علما منه أن أول ما يقع عليه جمهوره والمستمعون إليه يقع على مظهره الخارجي قبل الاستماع إلى مواعظه ونصائحه. فإذا كان هذا اللباس نقيا أبيض ناصع البياض، شد له جمهوره أكثر، واحترموا فيه -فضلا عن علمه- أناقته، لأن ذلك يدل من ناحية أولى أنه يستجيب لقول الله تعالى : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد}، كما يدل على كمال فقهه وتمام وعيه، بمقامه في بيت الله، واقتدائه فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من صحابته الأبرار وأئمة المسلمين الأخيار، والمغاربة الأصلاء الذين يفتخرون بهندامهم ولا يريدون به بديلا.
رسالته تفرضُ عليه أيضا أن يفكر من خلال الجهود التي يبذلها في هذا الطريق الشاق، وفي الثغرات التي يحب أن تُعالَج في مجتمعه. إذ ليس من شك في أن الخطابة والوعظ والإرشاد سلاح من الأسلحة القوية التي بواسطتها يستطيع أن يحقق أهدافه المتوخاة، وهي محاربة للأمراض التي يعاني منها الوسط الذي يعيش فيه.
وإذا نظرنا إلى بعض موضوعات الخطب والوعظ، وجدنا كثيرات هي التي يعتريها ضعف وفتور، لا سيما عند من لا يقدر مسؤوليته، كالذي لا يخصص وقتا كافيا للتفكير، كيف يبدأ الموضوع، كيف يعرضه؟ وكيف يختتمه؟ وما هي عناصره؟ ثم كيف ينتقل من فكرة إلى فكرة؟ ومتى يظهر انفعاله ويؤثر في الحاضرين، الذين اجتمعوا حوله تحدوهم الرغبة في الاتعاظ وأخذ العبرة، وإصلاح حالهم، والعمل لآخرتهم. وفي هذا الإطار ينبغي أن لا يكون الموضوع لا صلة له بحياة الناس وواقعهم الاجتماعي، بعيدا عن المشاكل التي يعيشونها ويبحثون عن حلها حلا إسلاميا صحيحا يخفف عنهم وطأة هذه المشاكل، سواء كانت أسرية أو اقتصادية أو اجتماعية. ولن يستطيع الحديث في هذا الجانب ما لم يكن فاهما لروح عصره، مدركا لما يجري في محيطه، متسلحا بأفكار إسلامية نيرة، يستطيع أن يواجه بها الأفكار الإلحادية التي تحارب الإسلام، لأن هذا العصر الذي نعيشه يمتاز بصراع فكري، ولا يمكن للمسلم أن يصمد أمام هذا الصراع إلا إذا كان مسلحا بقوى هائلة من دعاة وخطباء مؤمنين به فاهمين له، متشبعين بروحه.
فإذا كان الداعية على هذا المستوى، فإنه سرعان ما يلتف الناس حوله، وينوهون بشأنه، فإذا أضيف إلى ما سبق من الصفات صفة العفة والإيثار، وتحمل الأذى، والتذرع بالصبر والصفح والعفو، والتحلي بروح التسامح وسعة الأفق، وتجنب التفكير في الانتقام لنفسه، كان جديراً باقتداء الناس به.
أيها الاخوة الكرام :
إن المسلمين اليوم مطالبون أن يكونوا في مستوى رسالة دينهم العظيم، جهادا في سبيل الحق، وحربا على الإلحاد والشرك والمادية العمياء، وذيادا عن الحرمات وكرامة الإنسان، ونشرا للسلم، وتحقيقا للأخوة والتضامن بين المسلمين، وإقامة لشريعة الله، استجابة لنداء الحق : {الذين إن مكانهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الامور}.
ومن هذه الرسالة السامية التي تستقطب مظاهر عمل الخطيب والواعظ، يجب أن تنبثق رسائل العمل الإسلامي، ومناهجه وخططه، وترتيباته لخدمة كل جوانب تلك الرسالة. وتتبع فروعها، وتفاصيلها في كل واجهة من واجهات المعركة التي يخوضها الإسلام ضد قوى الشر.
أيها الإخوة الكرام :
لا ينكر أحد أن القيمين الدينيين أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يشعرون بهموم مجتمعاتهم، وقضايا شعوبهم، واحتلت هذه الهموم والقضايا موقعا في ضمائرهم، وأصبحت من الانشغالات اليومية، التي تهجم على فكرهم، ووجدانهم وإذا كان الاهتمام بقضايا المجتمع أمرا واجبا، وأن من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، فإن كلا من خطيب الجمعة والواعظ يعيش اليوم عصرا أفلست فيه الاديولوجيات المادية التي يشن أصحابها هجمة شرسة على قيم الإسلام وأحكامه ونظامه وشريعته، فعليه أن ينبه الأمة إلى ما يحيط بها، ويحضها على التمسك بهدي دينها في بناء الدولة، وفي الاجتماع والاقتصاد والثقافة وغيرها، لأن في سكوته خذلانا لأمته وخيانة للأمانة، وتلبيسا على الناس.
ونحمد الله تعالى أن خطباءنا ووعاظنا بعيدون عن هذه الاوصاف السيئة، متشبثون بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاقدون العزم على الإصلاح، وإسداء النصيحة لبلوغ الأهداف المتوخاة، وليس ذلك بعزيز على نخبة من أبناء هذا الوطن العزيز، شغلهم الشاغل الوصول بأبنائه إلى ما يرضي الله ورسوله، ويحقق لهم الطمأنينة الدائمة، والحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من احسن عملا} صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله