يمكن القول، بإيجاز شديد، بأن الإسلام، على المستوى التاريخي، أقام ما يمكن تسميته بالأممية الإسلامية، وهي تختلف في جوهرها عن الأممية الشيوعية، فهذه تميزت بالصلابة والرؤية الأحادية، واصطرعت مع مقومات الشعوب وخصائصها الذاتية، وتعاملت مع الحركة التاريخية بمنطق الميكانيك، فانكسرت وخسرت فرصتها في نهاية الأمر.
إننا اذا قرأنا كتاب (القوميات والدولة السوفياتية) لهيلين كارير دانكوس، الخبيرة الفرنسية في شؤون الماركسية الآسيوية والذي صدر عام 1987 عرفنا أبعاد الخطأ الذي مارسته الأممية الماركسية فقادها إلى الضياع.
في التاريخ الإسلامي أتيح للجماعات والشعوب الإسلامية أن تعبرّ عن خصائصها ومقوّماتها الذاتية، وأن تتحقّق في دائرة تراثها الثقافي، ولكن في نطاق عالم الإسلام، وفي توازٍ معه، وليس في اصطراع أو تضاد مع همومه الأساسية وأهدافه الكبرى وثوابته التي تجمّع عليها كل المنضوين إلى هذا الدين. إنها أممية ذات مفاصل مرنة تتيح لها الديمومة، والحركة، والتنوّع، والتغاير، فلا تتعرّض للانكسار.
في ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفسّر لماذا شهد عالم الإسلام وحدات ثقافية متغايرة بين بيئة وأخرى.. وحدات تستمّد مفردات نشاطها من تراثها الثقافي، ومن مؤثرات المكان والزمان، وتراكمات الخبرة ذات الخصوصية حتى في مجال اللغة والتعبير. فهناك مثلاً الثقافة أو البيئة التركستانية، والثقافة المغولية، والهندية، والإيرانية، والعراقية، والشامية، والمصرية، والمغربية، والسودانية، والإفريقية، والأندلسية، والبحر متوسطية، والأوربية.. إلخ. كانت هذه البيئات تمارس تأكيداً لذاتها وتعبيراً عن مطالبها المتميزة، لكن هذا لم يقدها إلى التضادّ مع الأهداف والثوابت الأساسية للإسلام.. على العكس، إنها كانت تبذل جهداً مضاعفاً من أجل تأكيد انتمائها الإسلامي، تارة بالجهاد والانتشار في الأرض، وتارة في صدّ هجمات الأعداء والاستجابة لتحدّياتهم، وتارة ثالثة بالدعوة إلى الإسلام في البيئات المجاورة، وتارة رابعة في تأكيد الصبغة الإسلامية للمعطيات الثقافية داخل كل بيئة.
إن المشرق والمغرب قدرا على أن يعبّرا عن ذاتيتهما المستقلة، فمنح هذا حضارة الإسلام تنوّعاً وخصباً. ولكنهما، وبموازاة هذا، كانا يتنافسان في الالتزام بالثوابت والأهداف الإسلامية، وفي تقديم المزيد من العطاء الذي يصبّ في هذه الأهداف.
إنها -كما سمّاها المستشرق المعروف فون كرونباوم- في الكتاب الذي أشرف على تحريره : (حضارة الوحدة والتنوّع). وهذا كلّه يمنح تصوّراً للمستقبل الإسلامي لا يقوم على الفراغ، إنما يستمد حيثياته من الخبرة التاريخية ويتجذّر فيها، ما دام الإسلام يمنح وحدة الشعوب الإسلامية، أو الأرض الإسلامية، هذا القدر من المرونة والمفاصل الحرّة، ويمكنها من التحقق بأممية غير قسرية، تتيح لكل المنضوين إليها أن يعبّروا عن أنفسهم في دائرة هذا الدين.
أ.د. عماد الدين خليل