يتعرض الدكتور يوسف القرضاوي إلى حملة إعلامية شرسة هذه الأيام من قبل أطراف عديدة في الوطن العربي، محسوبة بالدرجة الأولى على ما يسمى بمحور ‘الاعتدال’، لأنه أدان السور الفولاذي الذي تبنيه السلطات المصرية، تنفيذا لاتفاق مصري ـ إسرائيلي، لخنق المحاصرين المجوّعين في قطاع غزة.
الاتهام الأبرز الموجه الى الدكتور القرضاوي رئيس المجلس العالمي للعلماء المسلمين، إقدامه على تسييس الدين، وإدلاؤه بدلوه في القضايا المطروحة، والفلسطينية على وجه الخصوص، أي إن هؤلاء يريدونه واحدا من اثنين:
الأول: أن يلتزم مسجده، ولا يشاهد مجازر الإسرائيليين في قطاع غزة، والخراب الذي حل بالعراق على أيدي الاحتلال الأمريكي، ويدير ظهره كليا للفتن الطائفية التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي، ويقصر فتاواه على قضايا النكاح، وزواج المسيار، وآداب الوضوء ومفسداته،وهكذا.
الثاني: أن يتدخل في السياسة، ولكن على طريقة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، ومجمع البحوث الإسلامية الذي يرأسه، أي أن ‘يبصم’ على جميع قرارات الحكومة، وأن يصافح شمعون بيريس الرئيس الإسرائيلي، ويشرّع حصار قطاع غزة.
الشيخ القرضاوي، ومجموعة كبيرة من أمثاله، بعضهم معزول ومطارد، والبعض الآخر خلف القضبان، يرفضون أيا من الخيارين، وينحازون إلى ضميرهم الوطني وعقيدتهم السمحاء، وتعاليم دينهم، ويتصدون لمهمة محاولة إنقاذ الأمة من حال الوهن والهوان والمذلة التي وصلت إليها بفضل حكام فاسدين فشلوا في كل شيء، وسخّروا أنفسهم في خدمة مشاريع الهيمنة الأمريكية.
نسأل لو أن الشيخ القرضاوي والقلة القابضة على الجمر من العلماء الأفاضل من أمثاله، قد أيدوا الجدار الفولاذي، وأصدروا فتاوى تؤيد الاستعانة بالقوات الأجنبية لتدمير العراق ومن ثم احتلاله، ودعموا مبادرة سلام عربية تعترف بإسرائيل وتعطيها أربعة أخماس فلسطين، وأسقطوا جميع الخيارات الأخرى، هل كان هؤلاء سيواجهون هذه الحملات الإعلامية الهابطة في مضامينها وألفاظها؟
الإسلام كان، ولا يزال، أكبر انتفاضة على مدى التاريخ ضد الظلم الاجتماعي، والتمييز الطبقي العنصري، والعبودية في أبشع صورها وأشكالها، وانحاز دائما للحق والعدالة والمساواة، ونشر رسالة العقيدة والإصـــلاح ومواجهة أشكال الاستبداد والطغيان كافة.
وعاظ السلاطين، الذين يتعيشون من هبات الزعماء ورواتب وزارات الأوقاف، يريدون إسلاما مختلفا، يبرر الظلم، ويشرّع القمع، ويدعو للخنوع، تحت مسميات عزل الدين عن السياسة وإطاعة ولي الأمر، حتى لو كان فاسدا مقصّرا في واجباته الدينية والوطنية.
نحن مع فصل الدين عن السياسة، إذا كان هناك ساسة يقودون الأمة على طريق التقدم والازدهار وتحقيق الرخاء والعدالة، وحفظ كرامة الأمة وعزتها، واستعادة حقوقها المغتصبة، ولكن عندما يعزّ وجود هؤلاء في منطقتنا الإسلامية، ونحن نستثني هنا أردوغان ورفاقه في تركيا، ومهاتير محمد في ماليزيا، فإن من واجب رجال الدين أن يملأوا الفراغ، وينزلوا إلى الساحة لإنقاذ الأمة من محنتها.
هكذا فعل الأزهر عندما تغوّل الاحتلال البريطاني، وفسدت القيادة في مصر، وهكذا فعل المجاهد محمد الخامس في المغرب، وعبد الكريم الخطابي في الجزائر، وعمر المختار في ليبيا، والحاج امين الحسيني في فلسطين. فهل هؤلاء أخطأوا عندما خاضوا غمار السياسة ورفعوا راية الجهاد ضد الظلم والطغيان؟ ونحن هنا لا نريد العودة الى تجارب الإسلام السياسي في زمن الأيوبيين والمماليك، والفاطميين والعثمانيين، وانتصاراتهم المشرفة التي غيرت مجرى التاريخ.
حتى السلطة الفلسطينية المنبثقة من رحم الاحتلال التي اصبح لها أئمة مساجد، دخلوا غمار الحملة على هذا العالم الجليل، وسخّروا المنابر للتطاول عليه بطريقة مخجلة، بل وطالبوا بالتراجع عن تصريحات لم يفهموا مضمونها، في غمرة نفاقهم لرئيسهم، فانطبق عليهم مثل ‘الدب الذي قتل صاحبه’.
الدكتور القرضاوي قال ‘إذا’ كان الرئيس محمود عباس تواطأ مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأقدم على تأجيل تقديم تقرير غولدستون للمناقشة أمام المجلس الحقوقي الدولي، فإنه يستحق الرجم، ولكن هؤلاء الأقل خبرة ومكانة انبروا في حملة ظالمة ضد الدكتور العلامة، مؤكدين بذلك الشبهات التي حامت حول الرئيس بدلا من أن يفندوها أو يتجاهلوها تماما، لأن من المفترض أن رئيسهم لم يؤيد العدوان ولم يؤجل التقرير، حسب ما يقول في تصريحاته العلنية.
هذه الحملات، المرشحة للاستمرار والتصعيد فيما هو قادم من أيام، بفعل اكتمال بناء الجدار وعملية الخنق المرجوة من ورائه، وبدء الاستعدادات لغزو لبنان والعدوان على غزة مجددا، هذه الحملات لا تستهدف شخص الشيخ القرضاوي فقط، وإنما النهج المقاوم الذي يؤمن به ويعمل على ترسيخه، من خلال برامجه الدينية والدعوية، وتروّج له كتبه (ستون كتابا).
ومن المفارقة أنه يواجه حملات تحريض مماثلة من قبل إسرائيل وأنصارها في الغرب، أدت الى منعه من دخول بلدان عديدة على رأسها بريطانيا والولايات المتحدة، بحجة دعمه للإرهاب ومساندته للعمليات الاستشهادية.
فالإسلام الذي يتبنى ‘ثقافة المقاومة’ يصنّف على أنه الإسلام المتطرف، أو الإسلام الإرهابي، الذي يجب تجريمه ومقاومته، فهل هناك دولة عربية أو إسلامية واحدة تعلن مساندتها لمقاومة طالبان للاحتلال الأمريكي، وهي مقاومة مشروعة لاحتلال غير مشروع؟ وهل هناك حكومة عربية تدعم المقاومة علانية في العراق او فلسطين؟
ألم تدعم انظمة عربية الإسلام المقاوم للاحتلال السوفييتي لافغانستان لأكثر من ثماني سنوات، عززته بإنفاق اكثر من عشرين مليار دولار، فهل الاحتلال الامريكي ‘حلال’ والسوفييتي ‘حرام’؟
كفّروا العروبة وتياراتها عندما كانت عروبة مقاومة للهيمنة الامريكية، والآن يعودون اليها لاستخدامها في ضرب ‘الاسلام السياسي’ المقاوم، مثلما استخدموا الأخير ضدها أي ‘الإسلام’ في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ولمصلحة المشاريع الأمريكية ايضا.
نحن الآن أمام معجزة انقلاب السحر على الساحر، بعد ان اتضحت اللعبة وانفضح اللاعبون، وبات كبيرهم الذي علمهم السحر (أمريكا) يواجه الهزائم في العراق وافغانستان، وقريبا في اليمن بعد الصومال، وفلسطين على الطريق. فالشعوب نضجت وتعلمت، والقيادات الإسلامية والعربية باتت في الخندق نفسه، وتتعاون من اجل الهدف نفسه.
وبسبب ثورة الوعي هذه، وتصاعد حالة الغليان في الشارعين العربي والاسلامي، يعكفون حاليا على إصدار قوانين من أجل ‘احتلال’الإعلام العربي، من خلال تجريم كل محطة تلفزيونية تؤيد المقاومة، تحت ذريعة التحريض على قتل الامريكيين.
نحن أمام “إرهاب’ اعلامي جديد، فإصدار قنوات امريكية وبريطانية وألمانية وفرنسية وحتى صينية باللغة العربية لم يعد كافيا، لا بد من تشريعات جديدة تكتم أنفاس كل صوت يعارض الاحتلال ويطالب بمقاومته، ونفس الدكتور القرضاوي وصوته على رأس قائمة المطلوب كتمهم.
سيطروا على منابر المساجد من خلال طرد الأئمة الملتزمين بالعقيدة وقيمها وتعاليمها، واستبدلوهم بوعاظ السلاطين، والآن يريدون السيطرة على المنابر الاعلامية، وإغلاق تلك التي تشق عصا الطاعة على أمريكا وحلفائها في المنطقة.
نعتذر للدكتور القرضاوي عما أقدم عليه بعض السفهاء منا، الذين ضلّوا الطريق، وأعماهم النفاق عن رؤية الحقيقة، والانتصار لعلامة كبير كان دائما رأس حربة في الدفاع عن قضيتهم العادلة، وعانى من أجل ذلك، ولا يزال، الكثير.
> جريدة القدس العربي