الدين هو العبادة، والعبادة هي الصلاة. نعم، لعبادة الله أشكال شتى من الفرائض والنوافل والأعمال والحركات. سواء مما شرع للتعبد أصالة كالعبادات المحضة؛ أو مما شرع للتعبد تبعا، ككل أعمال العادات والمعاملات. ولكن ذلك كله مجموع في معنى الصلاة. فلا شيء من ذلك يكون عبادة حتى يرتقي إلى معنى الصلاة، ذوقا ووجدانا. ولذلك كانت الصلاة هي أعظم ما في الدين. كما في قوله : >رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة<(رواه ابن ماجة والترمذي)، وكان >أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله<(رواه الطبراني). فالصلاة إذن هي الدين من حيث معناه الذي هو الخضوع لله الواحد القهار رغبا ورهبا.
وللصلاة في الإسلام جمال الدخول في موكب الكون العابد، سيرا إلى الله تسبيحا وتمجيدا. فذلك إذن مقام الأنس البهي، حيث يستشعر العبد صحبة الكائنات كلها، تنافسه في حبه الجميل، ووجدانه العليل، وتسابقه في مسراه عبر قافلة العابدين الراجين الخائفين: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِه}(الرعد:13). فيا أيها الإنسان! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}(الحج:18)(س) أيّ تناسق هذا بين الأرض والسماء؟! وأي تناغم هذا بين شتى المدارات؟! وأي شذوذ هذا الذي يمارسه الإنسان في تمزيق وحدة الوجهة نحو الخالق العظيم؟! فَلِمَ لا يسجد داود عليه السلام لربه في هذا الموكب المتسق التغريد والتجويد… {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين}(الأنبياء:79)، {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}(ص:18-19) ?وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}(الإسراء:44)، و{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}(النور:41).
الإنسان عبد كوني
إن هذا القرآن يخاطب الإنسان باعتباره كائنا “كونيا” بامتياز. إنه يعيش في الأرض. نعم، ولكنه يمتد بفكره الطموح إلى الآفاق البعيدة بملايين السنوات الضوئية، بل بملاييرها وزيادة. فهو “كوني” بما هو عبد الله رب العالمين، يحمل رسالة الله في رحاب هذا الكون كله، “الكون” بمفهومه القرآني الفسيح، الممتد من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، لا بمفهومه الفيزيائي الضيق -على سعته- الذي يقف علماء العصر عند حدوده حائرين. فما النجوم والكواكب كلها بفضاءاتها وسُدُمها إلا سقف هذه السماء الدنيا. والكون القرآني يمتد فوقها سبع سماوات. و”السماء” في القرآن مفهوم غيبي لا علاقة له بالمادة المتجلية في عالم الشهادة. قال جل وعلا: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}(الصافآت:6)، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا}(نوح:15-16).
أيْ عبدَ الله! انظرْ، هذه الأجرام السماوية تسبح الله وتصلي، سابحة في مدارها السائر أبدا إلى الله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون}(الأنبياء:21).
أما أنت أيها العبد المؤمن! ففلكك السيار إنما هو مواقيتك الخمسة، تجري بك عبر أبراج المحبة ومنازل الشوق، فالبِدارَ البدارَ يا سالك بأوقات المطالع! فقد جمعت كل الخير في تجليات الجمال، وما بقي بعدها إلا التيه في فيافي الضلال. عجبا! وأي كوكب هذا الذي يرحل في مداره مجذوبا إلى جاذبيته، ثم يتخلف عن مطالعه؟ كيف وها {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}(النساء:103).
الوقت هو الصلاة
كان الوقت فكانت الصلاة.. وإنما الوقت هو الصلاة.. فتأمل! الإنسان، هذا الجرم الكوني الصغير، كان المفروض فيه أن يدور بفلكه كسائر الأجرام السيارة في الكون طوعا لا كرها. ولكن لو كان يدري… إن هذه الآية العظيمة تضعه في مداره الطبيعي ليسلك سبيله إلى ربه ذلولا: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتاً}. وما الإنسان إن لم يكن هو هذا العمر المحدود بداية ونهاية، وبينهما يوجد شيء اسمه الإنسان، فتأمل!
وإنما الصلوات الخمس مواقيت لرموز التحولات الزمنية؛ فالفجر بدء وبه تبدأ الحياة، وما بدأ شيء إلا لينتهي. والفجر اسم وقت قبل أن يكون اسم صلاة، لأننا إنما نعبد الله بالوقت. وإنما الوقت هو الصلاة لله رب العالمين الذي أنعم عليك بالبدء، أنعم بالحياة، فاملأ رئتيك -يا سالك- بالنفَس الأول من صلاة الميلاد، ميلاد الحياة. ويا لخيبة من نام عن شهود النبع الأول من عين الصفاء، فكرع من بعد الوقت ماء مسنونا! وهل يكرع الكارعون في آخر الماء إلا غسالة الأولين والسابقين؟!
ويدور الكوكب العابد في مداره هونا، حتى إذا توسطت الشمس كبد السماء اشرأبت الأعناق لسماع المؤذن يعلن بدء الزوال وانقلاب الظل إلى الجهة الأخرى. زوال الشمس يا صاحبي بداية العد العكسي في عمر الإنسان، فمذ دشن فجره وهو يعد عدا تصاعديا. حتى إذا زالت الشمس وامتد الظل قليلا إلى الجهة الأخرى بدأ الانحدار. ففرارا إلى الله إذن؛ تشهد منتصف عمرك صلاة ظهر، فما بقي أكثر مما سلخت من أنفاس،ذلك هو التحول الفلكي الثاني: محطة كبرى من محطات الزمن الأرضي، تشهدها عابدا لا شاردا عن باب الله. حتى إذا صار الظل مثل طول كل قامة امتد عنها بدأ العصر ينذر بقرب الأفول! وما العصر إلا إنذار لك يا سالك أنْ لم يبق لك من العمر إلا لحظات وتنتهي الأضواء إلى ظلمة القبر.
ماذا أعددت لذلك البيت الموحش من مؤنسات؟ والعصر محطة فلكية أخرى ينعصر فيها الزمن انعصارا ليشهد تحول الصهد المنخنق إلى أصيل. ذلك آخر الزاد إذن من سبحات النهار، ليس بعدها إلا مسك الختام. ومن هنا النذير الشديد لمن غفل عن هذه الساعة الفاصلة. فلحظة أو لحيظة -لا تدري كيف- ويكون الغروب. هنالك تشهد كيف يموت الضوء، بل كيف تموت الحياة، وتصلي. وإنما المغرب غروب، تلك هي الحقيقة الأولى التي نطق بها الفجر مذ تفجر عن أنواره لو تعلمون. فيا عبد، ما أخرك عن شهود حقيقتك؟! هذا الكون كله يغرب، ولا عودة للحظة ماتت، لا عودة لها أبدا… محطة فلكية من تحولات الأزمنة، تشهدها صلاة خاتمة للأضواء، وفاتحة للعتمات. ثم ندلج إلى الله بالعشاء صلاة سارية. وإنما العِشاء من العَشاء، وهو في الأصل ضعف البصر حيث العتمة تمنع الإبصار إلا قليلا.
تلك إذن هي الصلوات الخمس، أوقات للتحولات الفلكية الكبرى، نعدها بالصلاة عدا. ألم أقل لكم كان الوقت فكانت الصلاة، وإنما الوقت هو الصلاة؟! ولقد قلت لك يا صاح، فتأمل!
وإنما الأوقات الخمسة رموز لليوم كله؛ فجر، فظهر، فعصر، فمغرب، فعشاء. فماذا بقي بعد ذلك من الوقت إلا امتدادات لهذه أو تلك؟ فالوقت كله إذن هو الصلاة. أنت تصلي الأوقات الخمسة؛ إذن أنت تصلي العمرَ كله، قلت: كله. وإنما فرض الله الصلاة عمرا، لا حركة ولا سكنة إلا صلاة. ألم يفرضها عز وجل أول ما فرضها خمسين صلاة، ثم خففها إلى خمس، كل وقت منها ينوب عن عشرة أوقات، والحسنة في ديننا بعشرة أمثالها؟
أن تعبد الله بالوقت يعني أنك تعبده بمهجتك، وما المهجة إلا العمر، وما العمر إلا زمن، وما الزمن إلا أعوام، وما الأعوام إلا أشهر، وما الشهر إلا أيام، وما الأيام إلا ساعات، وما الساعات إلا دقائق، وما الدقائق إلا ثوان. فما عمرك يا ابن آدم، دَقّاتُ قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائقٌ وثوانِ.
هكذا إذن؛ أن تعبد الله بالخمس يعني أنك تعبده بالعمر كله، تنثر مهجتك بين يديه تعالى وقتا وقتا، أو قل نبضا نبضا، ما دام هذا الفلك يعبر العمر إلى ربه هونا.
أما أن يفوتك وقت فيعني أنك قد خرجت عن مدارك. فانظر أي حافة من الفراغ العاصف تنتظرك، وأي قوة بعد ذلك ستعود بك إلى هدوء المدار…
أن يفوتك وقت يعني أنك فقدت جزءا من العمر. ومن ذا قدير على استعادة الزمن الراكض إلى وراء؟ ولقد قال الفقهاء لفعل الصلاة إذا كان في الوقت “أداء”؛ وإذا كان بعد الوقت “قضاء”؛ لأن الذي يقضي لا يؤدي أبدا. هل يمكنك استعادة الوقت؟ هل يمكنك استعادة التاريخ؟ هل يمكنك أن تعيش اللحظة مرتين؟ ولقد صدقوا في الفلسفة القديمة إذ قالوا: “لا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين”. لو لم تكن الصلاة “وقتا”، لأمكنك أن تفعل ذلك على سبيل التشبيه والتقريب، أما وإنها وقت فإنك لن تفعل، وإنما الذي تفعله أنك “تعوض” تعويضا، وما كان العِوَضُ -بعذر أو بغير عذر- ليكون كالأصل أبدا، لسبب بسيط هو أن المسألة وقت، فانظر لو أنك لم تأكل طعام عشائك حتى كان الصباح، ثم طلبته؛ أتكون حينئذ تتعشى أم تفطر؟ طبعا إنك لن تتعشى عشاءك ذاك بعدُ أبدا، ولو كان الطعام هو عين الطعام. لسبب بسيط هو أن المسألة وقت. ولا صلاة تفوت فتؤدى بعد ذلك أبدا، وإنما فرصتك الوحيدة أن تقضي إن جاز لك قضاء. وشتان شتان بين أداء وقضاء! ألم أقل لكم كان الوقت فكانت الصلاة، وإنما الوقت هو الصلاة؟!
الوضوء حلية المؤمن
وأول البدء في الصلاة تجمل بالوضوء، فهؤلاء المؤمنون يتسابقون إلى تزيين وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، ورؤوسهم، فأرجلهم إلى الكعبين. و>تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء<(رواه مسلم)، ذلك شرط المرور إلى عتبة الصلاة، إذ >لا تُقبل صلاة بغير طُهور<(رواه مسلم).
وتتقاطر أفواج المصلين على الماء؛ ليرِدوا من بعد عطش شديد، مما أصابهم من دخان المال والأعمال. وتمتد الأيدي خاضعة ذاكرة يدفعها الحنين إلى ارتداء أوسمة الإيمان طهورا ينقلهم مباشرة إلى مناجاة الرحمن. وإن >الطهور شطر الإيمان<(رواه مسلم)، كلمة سرٍّ مُودَعة في كتاب الاستئذان من حديثك يا رسول الله.
وتدور الفصول من حر إلى قر، فيبقى الوضوء سرا من أسرار الجمال الذي ينسخ نوره آثار معركة الحياة، من سهام إبليس ورشاقته.
كانت كلمات النبوة بلسما، يوضع على الجروح فتشفى بإذن الله. فها أنا ذا يا حبيبي أرتحل إليك مخترقا حدود الزمان والمكان؛ لعلي أصيب رذاذا مما أصاب الصحابة الكرام، فجنبات المعمور ما زالت تردد أصداء النور النبوي: >ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا، ويرفع به الدرجات؟< قالوا: بلى يا رسول الله. قال: >إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط، فذلكم الرباط<(رواه مسلم).
والمكاره شتى في هذا الزمن الرهيب يا نبي الله… فهذا قر الشتاء أصبح اليوم خنقا، بتوقيت تعده عليّ ساعات الدرهم والوظيفة، وأشياء أخرى ما سلمت منها عين ولا خد ولا يد ولا رجل. فبأي حمأ آسن امتلأت برك هذا العصر الغريب!
ألا هونا عليك يا صاح! فما في الدنيا وسخ، أو دَرَنٌ لا يغسله أريج الطهور. لكنما التحلي مقام ينبئ عن تمام التخلي. فهلم إذن، وَأْتِ من أي الجهات أتيت، وبأي الأدواء ارتديت، فكل حفنة من الماء كفيلة بمسح بعض غبار الطريق.
أوَليس >إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه؛ خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه، مع آخر قطر الماء. فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع آخر قطر الماء. فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب<(رواه مسلم). بلى يا رسول الله!..