بثت القناة المغربية الثانية مساء يوم الأربعاء 6 يناير 2010 ضمن برنامج مباشرة معكم حلقة خصصتها لمناقشة قضية خوف الغرب من الإسلام، واستدعت لها جملة من الباحثين ليؤطروا النقاش. وقد كانت لضرورات الالتزام بالمنهج والوفاء لعنوان الحلقة والصدق مع المشاهد دواعٍ قوية :
للتركيز على موقف الغرب من الإسلام.
وعلى بحث الأسباب والدواعي لذلك الموقف.
وعلى تحديد المسؤوليات إزاءه.
وعلى اقتراح الحلول المشتركة لتجاوز أزمة العلاقة بين الغرب والإسلام.
لكن البرنامج انزلق عن موضوعه فتحول إلى حلقة لتسويق مواقف بعض المشاركين من الإسلام، وهي مواقف متجنية عبرت عن نفسها بلغة متشنجة لا علاقة لها بالعقلانية أو بالعلم، فمثلت هجوما واضحا على القرآن الكريم وتحديا لمشاعر المواطنين.
وكانت الحلقة في جملتها مناقضة لمسار المغرب وتوجهه نحو تجنيب الوطن كل أسباب التوتر والتطرف بكل أشكاله، كما أنها ناقضت ما يأخذ به المغرب من إبعاد كل المؤثرات الخارجية عن التدين المغربي، بعد أن أصبح التوجيه الديني عملا مؤسسيا لا ينفرد به شخص معين، وإنما تضطلع به هيئة علمية متخصصة تتناول قضايا الدين بما تستحقه من عمق ونأي عن المغامرات الخطيرة المجهولة النتائج والتداعيات.
خـطـاب الـتـقـريـع
فلقد انتصب محمد أركون ومصطفى بوهندي لتوجيه خطاب التقريع إلى المجتمع المغربي المتهم عندهما بالجهل بما في الأديان الأخرى، ولترديد أفكار مستهلكة معروفة من قبيل تحميل المسلمين كل أسباب التوتر، ولاتهام المسلمين أيضا باعتماد قراءات خاطئة للتراث الإسلامي عموما، وللحديث على وجه الخصوص.
وعلى كثرة ما وردت في مداخلتَيْ أركون وبوهندي من الأقوال المتجنِّية، ومن الجهالة الظاهرة، فإن ذلك كله يهون أمام سماع الطعن الصريح في القرآن بالذات، وأمام التزييف الشنيع لحقائق الإسلام.
فلقد كان أركون يمهد لخطابه بالإيهام باختصاصه بالعقلانية وبامتلاكه للمنهج العلمي الذي يجعل كل ما يقوله هو الحق والصواب، ثم وجَّه نقده وطعنه الصريح إلى القرآن الكريم على شاشة الشعب المغربي المسلم الذي يُمَوِّلُ هذه القناة ويُقيلُها من عثراتها المالية، ويوفر لها ما تضيِّف به من يَطْعَنُ في قرآنها ويُسَفِّهُ دينها.
أركـون والـطـعـن الأول
في البداية تعلق أركون بتعبير أحد المتدخلين عن الإسلام بأنه دين الحق، فانتفض مدعيا : أن القول بأن الإسلام دينُ الحق يمثِّلُ اعتداءٍ على الأديان الأخرى، وهو القول الذي زج بالناس في حروب دينية.
وهذا الادعاء الغريب الصادم يجعلنا نتساءل إن كان أركون يعلم أن هذا النص المعترض عليه هو نص قرآني وتوصيف إلهي للإسلام بأنه دينُ الحق، فيكون بذلك معترضا على الله ومُسْتدرِكا عليه، وطاعنا في خطابه، أم أن أركون يَجْهَل أن النص الذي يتوجه إليه بالنقد والمواخَذة هو آياتٌ قرآنية متكررةٌ في كتاب الله؟.
فلقد تكرر وصف القرآن الإسلام بأنه دين الحق في مواضع عدة، فقال الله تعالى في سورة التوبة: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}(التوبة: 32) وقال في سورة الفتح: ‘{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}(الفتح: 28) وقال في سورة الصف: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}(الصف: 9).
وتحدث القرآن في سورة التوبة عن الذين لا يدينون دين الحق. فهذه الآيات صريحة في وصف الإسلام بأنه دين الحق ولا يمكن أن يستدرك عليها إلا أعجميُّ اللسان والذوق، سيئ الفهم للنصوص.
إن المرء ليعجب حقا من هذا الأسلوب الأركوني في قراءة النصوص وتحليلها والاستنتاج منها. وصاحب هذا الاستنتاج هو الذي لم يفتأ يبشِّر بالقراءة العلمية التي تتجاوز أخطاء القدماء.
ومن معطيات هذه القراءة العجيبة أنك حينما تصف دينا بوصف معين فأنت بالضرورة تتهم الأديان الأخرى بنقيض ذلك الوصف. فإن قلت الإسلام دين حق كان معنى ذلك في منطق أركون أن الأديان الأخرى على النقيض من ذلك، وإن قلت إن الإسلام دين سماوي فمعنى ذلك أن الأديان الأخرى غير سماوية.
إن هذه محاولة عجيبة في الأخذ بمفهوم المخالفة أخذا يقترن بالجهل الفظيع بمواضع الأخذ به عند من يقول بمفهوم المخالفة. ومقتضى هذا التحليل أنك لو سميت مثلا حزبا بالحزب الوطني الديمقراطي الاجتماعي فأنت تتحرش بالأحزاب الأخرى وتتهمها بأنها ليست وطنية ولا ديمقراطية ولا اجتماعية. ولو انتهج الناس هذا النهج في فهم النصوص وفي الاستنتاج منها لصارت الدنيا اتهامات لا تنتهي وخصومات لا تنقطع.
ومن يعرف العربية يعلم أن لها أسلوبا خاصا يعلم منه أن المسكوت عنه هو نقيض المتحدث عنه وذلك هو أسلوب القصر. وأتمنى أن يكون لأركون رغبة في أن يتعلم هذا الأسلوب فيرجع إلى ما كتبه الزمخشري في تفسير قول الله تعالى: {إنك أنت الاعلى} الذي ورد فيه تقرير اختصاص موسى بالعلو من ستة أوجه(الكشاف 2/ 444).
الـقـراءة الـتـحـكـمـيـة
إن الغريب في منهج محمد أركون في الوصول إلى الخلاصات التي يكوِّنها عن الدين وهو رجل المنهج والعقلانية أنه يريد أن يؤسس تصورا عن موقف الإسلام من الأديان الأخرى من مجرد استنتاج خاطئ وقراءة تحكمية في الأسلوب العربي لآيات يصف الله فيها الإسلام بأنه دين الحق، والحال أن القرآن طافح بالآيات المتعددة التي عبر فيها القرآن بدقة وجلاء عن موقفه من الأديان. وليس من المنهج في شيء أن تسكت النصوص الصريحة ليعدل عنها إلى الإشارات والاستنتاجات الخاطئة، لأن الإسلام له كتابه الفصيح القادر على أن يعبر عن ذاته من غير أن يحوج إلى تأويلات وافتراضات لا تقوم مقام نصوص القرآن.
وحينما نبحث عن موقف القرآن من الأديان فإننا نجده موقفا علميا متوازنا يميز في الأديان بين حالتها التي كانت فيها على صفائها الأول، وبين الحالات التي تعرضت فيها إلى تدخل البشر وتصرفه في الوحي.
فالقرآن حينما يتحدث عن الأديان في أصولها وعن كتبها وعن أنبيائها وعن أتباعهم الصادقين فإنه يشيد بذلك كله، فهو يقول عن التوراة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور}(المائدة 46) . ويقول عن موسى وهارون وقومهما: {ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم}(الصافات 118).
وقال عن مراده في بني إسرائيل: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}(القصص4).
ويقول عن عيسى وعن تنزيل الإنجيل عليه : {وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور}(المائدة 48).
وقال عن النصارى الصادقين: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}(المائدة 85).
وإذا صح للقرآن أن يسمي التوراة كتابا مستبينا ودينها صراطا مستقيما، ويسميها مع الإنجيل هدى ونورا، فهل يُنتقد عليه أن يسمي الإسلام دين حق؟.
لكن القرآن مع ذلك لا يتجاهل المسار التاريخي للأديان والتدخلات البشرية التي تعرضت لها، فأدَّتْ إلى تحريفات غاب بسببها أصل التوحيد، فنشأت بين أتباعها انتقادات ثم خصومات وصراعات دامية.
والغريب في الموضوع أن أكثر الباحثين لا يكفُّون عن التمييز بين الدين في أصله الإلهي، وبين التدين باعتباره فعلا بشريا حينما يتحدثون عن الإسلام، لكنهم لا يقبلون هذا التمييز حينما يتعلق الأمر بالأديان الأخرى، فيرون أن مجرد الإشارة إلى وقوع الانحراف التاريخي فيها هو اعتداء عليها، كما يرى ذلك أركون في منهجه المتناقض.
لكن الذي يجب أن يكون الحكم الفصل الذي يبعد عن المماحكات هو الرجوعُ إلى الواقع التاريخي الموضوعي للأديان، وهو واقع علميٌّ موثق كتبه أتباع الديانات أنفسهم.
الواقع التاريخي الموضوعي للأديان
فبالنسبة إلى المسيحية كان مؤتمر نيقية المنعقد سنة 325 مرحلة فارقة إذ اجتمع فيه 2048 من رجال الكنيسة ليحسموا في الاختلاف العقدي الذي عاشه المسيحيون من قبلُ، والمتعلق بطبيعة المسيح، وبصلة اللاهوت بالناسوت في المسيح، وقد انقسمت المسيحية على خمسة آراء شكلت فيما بعد طوائف دينية متباعدة، فكان رأي الأمبراطور قسطنطين يتجه إلى المزج بين المسيحية في صفائها وبين بقايا العقائد المحلية، وانحازت كنيسة الإسكندرية ثم كنيسة روما إلى موقف المزج، <وكتب 318 من رجال الكنيسة بَيَانَهُمْ النهائيّ الذي حَددُوا فيه طبيعة المسيح، وجاء فيه ما نصه : نؤمن بالإله الواحد الأب صانع كل شيء وصانع ما يُرَى وما لا يُرَى، وبالإبن الواحد يسوع المسيح ابن الإله الواحد بكر الخلائق كلها الذي وُلد من أبيه قبل العوالم كلها. وبعد هذا القرار انفصل أريوس وآخرون ظلوا ينادون بالعودة إلى عقيدة التوحيد، ثم قُتِل أريوس وشُرِّد من لم يقبَلْ بالبيان.<
وعبر تاريخ المسيحية كله ، ظهر من المسيحيين من يُبْدي ملاحظات ويعلن عن ضرورة التصحيح، وكانت هذه الدعوات من الكثرة التي يعطي فكرة عنها : أن الفاتيكان أصدر عام 1929 قرارا لا زال معمولا به يُحْظَر فيه على الكاثوليك قراءة 5000 كتاب لمؤلفين كثيرين منهم: جان جاك روسو، وديماس الأب، وديماس الإبن، وفيكتور هوكو، ورينان، وإيميل زولا وغيرهم من المفكرين الذين لا نظن أن أركون يجرؤ على أن يتخذ منهم الموقف الذي اتخذه من الإسلام فيتهمهم هم أيضا بالتجني على المسيحية.
وقد ظهرت منذ سنة 1000 ميلادية جماعة في تولوز وأورليان تنكر التعميد ووجود المسيح في القربان المقدس، وتأثير صلوات القديسين، وفي سنة 1023 أحرق من هذه الجماعة 13 شخصا، ثم قامت جماعة أخرى سنة 1025 في لياج وكامبريه، لتنتقد بعض ما طرأ على المسيحية، وفي سنة 1170 قام بطرس والدو بترجمة الكتاب المقدس إلى لغة جنوب فرنسا، ثم أسس طائفة أنكرت صحة العشاء الرباني، وعارضت بيع صكوك الغفران وعقيدة الطهر، وتحويل القربان المقدس إلى جسم المسيح ودمه، وتكونت طائفة الكاثاري التي نادت بالعودة إلى العقائد المسيحية الأولى، واعتبرت المادة كلها شرا بما فيها الصليب والقربان المقدس، ورفضت العشاء الرباني وتعظيم الصور المقدسة والتثليث، فأعلن البابا إينوست الثالث الحرب على الكاثاري، ثم تشكلت في سنة 1233 محاكم التفتيش لتعاقب من ينتقد واقع الكنيسة.
ولم تتوقف دعوات الإصلاح عن المناداة بالرجوع بالمسيحية إلى الأصل، وفي نهاية القرون الوسطى برز على الساحة المسيحية رجال إصلاح ديني كثيرون يدعون إلى التصحيح منهم: المعلم أكهارت 1328 وجون ويكلف 1484 وجون هس 1415 وتومس كامبس 1421 ثم كان الإعلان القوي الذي علقه مارتن لوثر على باب كنيسة فنتنبرج 31 أكتوبر 1517 وضمنه 95 قضية اعترض بها على الكنيسة.
وبعد هذا الاستعراض فإن وصف الإسلام بأنه دين حق لا يمثل تحرشا بأي دين آخر، ونحن المسلمين لا يزعجنا أبدا أن يقول اليهود أو النصارى إن دينهم حق، لأن ذلك هو المنتظر منهم منطقيا، إذ لو لم يكونوا معتقدين أنه حق لما تمسكوا به، ولا استمروا عليه ودافعوا عنه، بل إن من المستحيل أن يوجد على وجه الأرض من يدين بدين من غير أن يعتقد أنه حق إلا أن يكون منافقا يخادع الناس.
وقد كان القرآن هو الكاشف عن مواقف أتباع الديانات ورؤيتهم للأديان الأخرى على أنها لا تمثل الحق حينما ذكر اعتداد اليهود والنصارى بأديانهم فقال الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء}(البقرة 113).
ولولا أن المجال لا يسمح لأبرزتُ من كتب الديانات حقيقة اعتقادها أحقيتها وأولويتها بالاتباع.
ومهما يكن الأمر فإنه لا مصلحة للأديان وللبشرية حاليا في تضخيم الأسباب والمبررات التي تغذي روح الكراهية للإسلام، لأن ذلك لا يعكس الحقيقة الموضوعية ولا يمثل موقف الإسلام المتسامح مع الأديان، ولأن تغذية هذا الشعور تقوي روح العداء وتؤزم العلاقات بين أتباع الديانات، وتنعكس سلبا على مصالح المسلمين المقيمين في الغرب.
والأوفق بأهل الفكر أن يبحثوا عن القواسم المشتركة بين الأديان ليواجهوا بها الاختلالات الأخلاقية والظلم السياسي الذي يقع على المستضعفين في بقاع شتى من الأرض.
الـطـعـن الـثـانـي
ومرة أخرى وجد أركون فرصته السانحة الثانية في البرنامج التلفزي ليطعن مرة ثانية في القرآن فيتهمه بأنه كان هو المتجنّي على الأديان الأخرى لما اتهمها بوجود التحريف فيها، وهو ما أدى إلى إشعال فتيل الحروب الدينية. متجاهلا أن الحروب الدينية كانت على أشدها بين المسيحيين من نساطرة ويعاقبة قبل مجيء الإسلام بزمن طويل، وأن الكثير منهم تعرضوا للتشريد أو للقتل مثل ما وقع لأريوس.
وأعتقد أن الذي يحسم في تفنيد ادعاء أركون أن الإسلام تجنَّى على الأديان السابقة حينما تحدث عن التحريف الواقع فيها وفي كتبها هو الرجوع إلى واقع كتب الأديان السابقة، وإلى ما كتبه الباحثون وعلماء الفيلولوجيا وهم يدرسون نصوص الكتب الدينية السابقة دراسة علمية لا علاقة لها بالبواعث الدينية.
ومنذ البدء يفرِضُ سؤال موضوعي نفسه، مؤداه أنه إذا كانت المسيحية قد انتقلت من الإنجيل إلى الأناجيل، وكانت تلك الأناجيل التي جاءت لتخلف الإنجيل الواحد متباينة طولا وقصرا، فأيُّها يجب أن يعتبر المعبر عن الكتاب كما أوحاه الله إلى عيسى \؟.
إن علماء الأديان من غير المسلمين يبدون أكثر تواضعا من أركون حينما يقررون أن المراد بالكتب المقدسة هو معانيها لا نصوصها. لأن واقع تك الكتب أنها ترجمات عن لغات أخرى تكلم بها الأنبياء الذين نزلت عليهم تلك الكتب.
فقد تكلم موسى \ العبرانية القديمة التي صارت فيما بعد لغة سامية منقرضة، وتشكلت للإسرائليين وهم في أرض بابل في زمن الأسر لغة جديدة هي مزيج من السريانية ومن العبرانية، فكانت العبرانية الحديثة، الآرامية هي اللغة التي دونت بها أول نسخ التوراة.
وقد تكلم عيسى \ الآرامية، في حين أن أقدم نصوص الأناجيل التي يعتمدها المسيحيون هي مدونة بالسريانية أو اللاتينية، وقد كان إنجيل لوقا وهو أقدمها تدوينا قد كتب بالآرامية أول الأمر، لكن لم تصل عنه إلا ترجمته اللاتينية التي ليس فيها إلا 16 كلمة آرامية.
والسؤال المنطقي الذي يفرض نفسه هل يكون الكتاب المترجم عن غيره في زمن متأخر عن نبوته سليما من التحريف والإضافة قطعا؟!
وهل تفي الترجمة بتمثيل الأصل خصوصا ونحن نضع في الاعتبار القول الإيطالي الذي ردده بارت بأن الترجمة خيانة للنص؟.
وإذا كان أركون يصر على أن القرآن قد تحامل على الأديان والكتب السابقة ونسب إليها التحريف، فإن بالإمكان الرجوع إلى ما كتبه كثير من المفكرين والباحثين غير المسلمين، ونأخذ مثالا منهم الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا الذي أقام فكرة كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة، على إبراز بشرية نصوص العهد القديم، واستشهد بما ورد في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر التثنية من التوراة ونصه: ومات هناك موسى عبد الله في أرض مؤاب عن أمر الله ودفنه في الهوية في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان تربته إلى اليوم ولا يقوم أبدا في بني إسرائيل كموسى إذ ناجاه الله شفاها. (التوراة السامرية سفر التثنية إصحاح 34 ترجمة محمد أحمد القاص ص:242 دار الأنصار).
وقد لمس سبينوزا في هذا النص أنه حديثُ شَخْص جاء بعد موسى وهو يحكي عن وفاته وعن قبره وهو متأخر عنه زمانا لأنه يذكر أنه لم يأت بعد موسى رجل مثله، وتحليل سبينوزا يتوافق مع واقع تدوين الأسفار الخمسة التي دونت بعد حياة موسى الذي عاش حوالي القرن 13 و 14 قبل الميلاد، بينما دون معظم سفري التكوين والخروج في القرن التاسع قبل الميلاد، ولم يدون سفر التثنية إلا في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، ولم يدون سفرا العدد واللاويين إلا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.
وبعد وفاة موسى وأخيه هارون الذي استودعه موسى الألواح وقعت الألواح بأيدي الفلسطينيين بعد أن هزموا الإسرائيليين فأخذوا الألواح إلى أشدود، وظلت عندهم عدة أشهر ثم أرجعوها حين انتصب على الإسرائيليين طالوت (شاوول) ملكا وعن هذه المرحلة يقول القرآن الكريم : {إن آية ملكه أن ياتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة}(البقرة 248).
وشأن هذه الأحداث المتعاقبة من ترجمة، ومن غياب لأصول الألواح عن بني إسرائيل ومن تدوين متأخر ومتباعد في الزمن أن يؤدي إلى تصرف البشر في هذه الكتابة.
بوهندي ومقررات العقيدة
وبعد أن عبر أركون عن مواقفه من القرآن، فقد اشترك هو وبوهندي في اتهام المسلمين ومؤاخذتهم بعدم معرفتهم بالكتب السماوية، لكن بوهندي تفرد بإبداء موقف يناقض مقررات العقيدة الإسلامية، وإجماع الأمة في ضبط مفهوم الإسلام، فسعى إلى تمييعه في خلط عجيب بين دلالته اللغوية ودلالته العرفية الشرعية. بناء على وصف القرآن للأنبياء السابقين بأنهم كانوا مسلمين.
فلقد ذهب بوهندي إلى أن الإسلام دين واحد بينما اعتبر الديانات مجرد تجارب في التدين ليس أحدها أولى من الآخر بادعاء تمثيل الإسلام باعتباره الدين الأصل.
ومقتضى هذا منطقيا أن نتوقع إمكان أن ينتقل بوهندي من تجربته الحالية إلى التجربة اليهودية أو النصرانية ما دامت التجارب التدينية متساوية في عدم تعبيرها عن الإسلام الحق.
إن كلمة ” الإسلام ” في القرآن لها دلالة لغوية تعني الانقياد والاستسلام لأمر الله. بغض النظر عن الدين الذي يكون عليه المرء إن هو أطاع النبوة الموجهة إليه، ومن قبيل إطلاق لفظ الإسلام على معنى الانقياد والاستسلام قول سليمان لملئه: {أيكم ياتيني بعرشها قبل أن ياتوني مسلمين}(الشعراء 39) أي منقادين لسليمان. ومنه ادعاء فرعون أنه من المسلمين في قوله تعالى: {آمنت أنه لا إله إلا الذي أمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين}(يونس 90) أي خاضع منقاد. واعتبارا لمعنى الاستسلام والخضوع فإن الأديان كلها متوقفة عليه.
أما الإسلام بمعناه الذي صار حقيقة شرعية فهو ما عرفه به رسول الله لما سئل عن الإسلام فأجاب: >الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت عليه سبيلا’<(صحيح مسلم كتاب الإيمان باب الإيمان والإسلام والإحسان…رقم الحديث 1).
وعلى هذا فالإسلام في العرف الشرعي هو دين محدد يتطلب التصديق برسالة محمد . فمن لم يصدق برسالته بعد أن بلغته دعوته لم يكن مسلما لا لغة ولا اصطلاحا.
والمقرر علميا أن اللفظ حينما يُنْقَلُ من دلالته اللغوية العامة وتصبح له دلالة عرفية شرعية، فإن التعامل معه يجب أن يتم على أساس الاستعمال الشرعي، فالقرآن قد استعمل مثلا الصيام بمعناه اللغوي الذي يعني التوقف عن أي شيء، فتحدث عن صيام مريم عن الكلام فقال تعالى: ‘{إني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا}(مريم : 25) لكن الصيام إذا أطلق فالمقصود منه معناه الشرعي الفقهي المعروف.
وأما عن ادعاء أركون وبوهندي أن المسلمين لا علم لهم بما في الأديان الأخرى وبما في كتبها، فهو مُنْبَنٍ على نظرة ازدرائية تنكر جهد الأمة وما أنجزته من دراسات قيمة في تحليل نصوص الكتب الدينية السابقة.
وقد بدأ هذا الجهد العلمي في زمن مبكر من حياة الأمة، فكتب في مناظرة الأديان القاسم بن إبراهيم الحسني الرسي ت 246 (الأعلام 6/ 171) وعلي بن الطبري توفي 247 (الأعلام للزركلي 4/ 288) والوراق أبو عيسى محمد بن هارون ت 247 (معجم المؤلفين 3/ 755) وأبو عثمان الجاحظ ت 255 (الأعلام 5/ 74) وأبو يوسف يعقوب الكندي ت 260 (الإعلام 8/ 195). والناشئ الأكبر أبو العباس عبد الله بن محمد ت 293 (وفيات الأعيان لابن خلكان 3/ 91).
واستمر اطلاع المسلمين على كتب الأديان وبحثهم في مضامينها، وكان من أبرز الأعمال العلمية ما أنجزه ابن حزم محمد بن علي ت 456 (في الجزئين الأول والثاني من كتابه الفِصل في الملل والأهواء والنحل عن اليهودية والمسيحية).
وكتب الفخر الرازي (ت 606) (الأعلام للزركلي 5/ 137) مناظرته مع النصارى وهي مطبوعة بتحقيق عبد المجيد النجار.
وسجل ابن تيمية (ت 728) في كتابه الجواب الصحيح ردوده على ست قضايا كان النصارى يرددونها.
وفي الأعصر الحديثة ناظر خليل الرحمن الكرواني الهندي القس فندر في مدينة أكبر آباد بالهند سنة 1270 هجرية، ودونت المناظرة في كتاب إظهار الحق، وكتب بعض العلماء المعاصرين دراسات قيمة عن عقائد الأديان الأخرى وعن كتبها، ومنها: محاضرات الشيخ أبي زهرة عن النصرانية، وكتابة علي عبد الواحد وافي عن الكتب المقدسة في اليهودية والمسيحية.
وقد نقل كثير من اليهود والنصارى الذين اعتنقوا الإسلام معلومات عن أديانهم السابقة، وبالنسبة للمغرب فقد كتب السموأل بن يحيى بن عباس الفاسي ت 570 كتابه بذل المجهود الذي ناقش فيه كثيرا من معتقدات اليهود.
وعلى هذا فإن ادعاء أن المسلمين لا يعرفون الأديان الأخرى هو جهل بالواقع الثقافي للأمة، أو هو تجاهل مقصود.
وبعد فهذه ملاحظات سمح بها المقام كشفت عن زيف المستند الذي اتكأت عليه اتهامات القرآن بالتجني على الديانات الأخرى. وهي أيضا خطاب أتوجه به إلى كل الجهات الواقفة في موقع الحفاظ على هوية الأمة المغربية وحماية دينها أن تلتزم اليقظة الضرورية من أجل إيقاف تمدد مشروع يتمظهر بالعلم والعقلانية والفكر الحر وهو في واقعه مشروع يستغفل الناس ويحتقر عقولهم ويعدو على الثوابت التي جعلت من المغرب بلدا يعتز بانتسابه إلى الإسلام، ويدافع عنه ويطور معارفه وعلومه منذ اعتناق هذا الدين.
د. مصطفى بنحمزة