ما هي منطقة القرن الإفريقي؟
تحدد منطقة القرن الإفريقي جغرافيا بالدول المطلة على البحر الأحمر على باب المندب والمحيط الهندي، إلى السواحل الإفريقية الجنوبية الشرقية، وتضم كلا من إثيوبيا وإيريتيريا وجيبوبتي والصومال كينيا، ولمن يوسع دائرة المنطقة يضيف إليها مصر والسودان وأوغندا وتنزانيا، مما يجعلها منطقة جيو استراتيجية مهمة ومعقدة سياسيا واقتصاديا وعرقيا، ومحل جذب الاهتمامات الإقليمية والدولية.
وقد ظلت هذه المنطقة -منذ بداية الكشوفات الجغرافية وبداية الحركات الاستعمارية الهولندية والبلجيكية والبرتغالية إلى يومنا هذا- محل نزاع قوي بين القوى الدولية الأوروبية والعالمية (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، والصين وإسرائيل وإيران)، إضافة إلى التنافس الديني في المنطقة بين الحركات التنصيرية والتهويد لمحو الخصوصيات العربية الإسلامية والإفريقية في المنطقة.
فما هي مكونات التفاعل في منطقة القرن الإفريقي السياسية والاقتصادية والثقافية والجغرافية؟
المقومات الجيو-ستراتيجية للقرن الإفريقي
لعل أهم مقوم جوهري في المنطقة هو الموقع الجغرافي الذي يتحكم في التجارة الدولية في البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب والخليج العربي (المركز الحيوي للنفط العالمي) والمحيط الهندي المؤدي إلى الهند والصين وشرق آسيا…) وسواحل إفريقيا الشرقية والجنوبية. كما أن القرن الإفريقي يعد المدخل الشرقي للتوغل في إفريقيا الوسطى والغربية وربطها بالجزيرة العربية وآسيا و شمال إفريقيا وأوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس .
ويمكن القول إن هذه المنطقة تتحكم في خط التجارة العالمي من آسيا والخليج العربي إلى أوروبا وروسيا و بريطانيا والولايات المتحدة، ومن إفريقيا الغربية والوسطى في اتجاه الشرق، كما أنها منطقة مهمة للمراقبة العسكرية لمرور السفن العسكرية وغيرها ، إضافة إلى هذا فتتوفر المنطقة على موارد طبيعية هائلة : موارد معدنية ونفطية هامة ، وإذا نظرنا إلى موقع دوله في حوض النيل تبين نوع الأهمية الاقتصادية للمنطقة ولنوع النزاعات والتوترات التي يمكن أن تسود فيها.
وسياسيا ازدادت أهمية المنطقة في الاستراتيجية الدولية المعاصرة بتدهور الوضع في الصومال وضعف بعض الحكومات المحلية لدول المنطقة وازدياد نفوذ الجماعات الإسلامية التي يتخوف منها الغرب وحركات التنصير ويربطونها بالقاعدة وطالبان من باب التهويل في التخويف لتبرير مزيد من التدخل والابتزاز، ويحرش دول المنطقة ذات الأغلبية المسيحية على التوتر والنزاع(مثل إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان، وأوغندا وتنزانيا وغيرها من دول إفريقيا الوسطى).
الصراعات المحلية
ترجع أهم الصراعات المحلية إلى التنوع العرقي والثقافي واللغوي، التي تؤجج النزاعات القبلية والإثنية والدينية خصوصا في ظل ضعف الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وضعف الولاء للدولة بالمقارنة مع قوته للقبيلة وللطائفة الدينية مما يؤثر سلبا على عدم الاستقرار ويقوي ميولات التمرد ويغذي حركات الانفصال والانقلاب وتغيير الحكم بالقوة والعنف (حالة الصومال)، هذا إذا أضفنا تفشي ظواهر الفساد الإداري والاستبداد السياسي واحتكار تداول السلطة وتهميش المخالف الآخر (قبلي أوديني أو سياسي..) والقابلية للعمالة للأجنبي ، كما ساعدت البيئة الصحراوية والجفاف والحروب المستمرة في الحد من نجاح خطط التطوير الاقتصادي والتنمية البشرية ورفع مستوى الوعي والمعيشة.
غير أن ما زاد الوضع مأساوية ـ زيادة على ما سبق ـ هو توسع الأطماع الدولية في المنطقة واتخاذها بؤرة للصراع ،وإضعاف دول المنطقة عبر إثارة النزاع وتسليح الفرقاء والقبائل والمعارضة وحركات الانفصال والتحكم عن بعد في خيوط اللعبة لتحقيق مصالح الكبار السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والدينية(حركات التنصير مثلا) وجنوب السودان ودارفور والصومال والنزاع بين أثيوبيا وجاراتها من الدول المسلمة خير دليل، كما أن دفع كينيا وأوغندا للتدخل في الوضع الصومالي ودفع تشاد للتدخل في دارفور يشكل واحدة من صور التدخل الأجنبي وتأجيج الصراع وإضعاف المنطقة.
مما يجعل المنطقة لا تنعم بالاستقرار في ظل هذه الظروف والتحديات، التي زاد من عمقها أيضا النزاعات الحدودية واستمرا النزاع عليها وضعف دول المنطقة في التحكم في حركية التنقل بين الحدود من حيث الأشخاص أو القبائل الرحل والبضائع مما يسمح بانتقال الأسلحة والأفكار وتوسع دوائر الصراع والنزاع وامتداد شراراته. كما أدى إلى توسع أعمال القرصنة البحرية.
التحديات الإقليمية:
إذا كانت دول القرن الإفريقي تعاني من أزمات داخلية حادة ثقافية واجتماعية وعرقية واقتصادية وسياسية فإنها أيضا تعاني كما سلف من تدخل الجوار وامتداد أطماع الدول الاقليمية الكبرى، إذ تعتبر إثيوبيا المسيحية أقوى دول القرن تهديدا للاستقرار في المنطقة بتدخلاتها في الصومال والسودان، كما تأتي أطماع كينيا في السودان والصومال تقريبا بنفس أطماع إثيوبيا، إذ كل منهما يعتبر وجود دولة قوية في الصومال والسودان بأغلبية عربية وإسلامية يهدد استقرارها ومصالحها.
وتأتي مصر ضمن الدول الإقليمية التي يعنيها الوضع في القرن الإفريقي لكونه امتدادا طبيعيا وجغرافيا له برا وبحرا، وتشترك مع دول حوض النيل في أزمات المنطقة، ولكونها تتعارض مصالحها بشكل مباشر مع إثيوبيا وكينيا، في كل من السودان والصومال لكون هذين البلدين يرتبطان بمصر ثقافيا وتاريخيا وحتى جغرافيا (السودان) وكل تصعيد في النزاع في المنطقة يمكن أن يلقي بظلاله القاتمة على الأمن القومي المصري، لذا تحرص مصر على مراقبة الوضع بل على التحكم فيه عبر إقامة تحالفات مع دول حوض النيل وغيرها وخاصة السودان وغيره.
كما لا يمكن تجاهل أدوار إقليمية مجاورة استغلت الوضع للتغلغل في المنطقة خاصة التوغل الصهيوني في المنطقة عن التحالف مع جنوب السودان واتيوبيا وكينيا وإريتيريا ومراقبة الوضع في الصومال إذ يعتبر الكيان الصهيوني أن منطقة القرن الافريقي عمقا استراتيجيا مهما لحماية أمنه القومي والإقليمي والنفاذ إلى المحيط الهندي والتحكم في مصادر النفظ الإفريقي وثرواتها المعدنية، وفي التجارة البحرية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، ومراقبة ما تدعيه إمدادات عسكرية لقطاع غزة تأتي من دول عربية (الصومال، اليمن، إيران، أفغانستان … ).
لذلك فإن توسع أعمال القرصنة البحرية في القرن الإفريقي تعتبره إسرائيل كبيرًا، ويرجع اهتمام الصهاينة بهذه المنطقة إلى بداية الخمسينات لنسج خيوط سياسة حماية الأمن القومي خارج المحيط العربي بالتوجه إلى إفريقيا وعقد تحالفات إستراتيجية عسكرية واقتصادية مع كل من إتيوبيا وكينيا وإريتريا وحركات الانفصال في السودان والصومال.
أما الدور الإقليمي لإيران وتركيا فيأتي كونهما تسعيان إلى منافسة المد الصهيوني والتنصيري، وفتح جسور التعاون مع بلدان القرن على المستوى الاقتصادي والثقافي والأمني للخروج من العزلة الدولية بالنسبة لإيران، وإيجاد بديل اقتصادي عن الاتحاد الأوربي بالنسبة لتركيا.
الصراعات الدولية والتنافس على السيطرة على المنطقة
لعل أهم أسباب الصراع والتنافس الدولي وتجاذب مصالح الدول الكبار على منطقة القرن الإفريقي ترجع بالأساس إلى :
- الأهمية الإستراتيجية للمنطقة في التحكم في التجارة الدولية، ومراقبة الطرق البحرية عبر البحر الأحمر الرابط بين البحر المتوسط وأوروبا، وبين المحيط الهندي بدوله الأسيوية شرقا والإفريقية غربا، ومنطقة الخليج العربي، لذلك سعت الدول الكبار على وضع قواعد عسكرية وتنصيب أنظمة حاكمة موالية وضامنة لهذه المصالح إذ يعتبر إيجاد موطئ قدم في المنطقة مدخلا للتحكم في كثير من قضايا هذه المنطقة الواسعة.
- اكتشاف النفط والغاز الطبيعي في المنطقة والثروات المعدنية والفلاحية في حوض النيل وجبال إفريقيا وصحاريها سرع في وتيرة الاهتمام بالمنطقة.
- تنامي الحركات الدينية والصراعات بين الجانب الإسلامي والمسيحي، مما دفع بالدول الكبرى للتدخل في المنطقة والحفاظ على قوة المسيحية في المنطقة ودعمها لأنها تعتبر الأداة الطبيعية للاستعمار والتبعية والحفاظ على ارتباط هذه الدول الإفريقية المسيحية بالمركزية الغربية لغة وثقافة ومصالح اقتصادية.
وقد ازداد التنافس الدولي على المنطقة إبان الحرب الباردة، واستمر بعدها بعد انفراد الولايات المتحدة بالزعامة وتغلغل المشروع الصهيوني في المنطقة وتزايد الأطماع الأوروبية والصينية.
فالولايات المتحدة ترى في منطقة القرن عمقا استراتيجيا وموقعا مهما لقربه من النفط العربي، وبديلا عنه في المستقبل، وموقعا لمراقبة الصين والحد من منافستها، ثم مركزا مهما لقواعدها العسكرية تجاه الدول المصنفة ضمن الخط المعادي لها (إيران، الصين، القاعدة) كما أن ضعف الدولة في الصومال وإريتريا والجيبوتي والسودان يدفع الولايات المتحدة للتدخل في المنطقة لمراقبة المد الإسلامي، ومحاربة تغلغل القاعدة التي تعتبرها تهديدا حقيقيا لمصالحها ومبررا كافيا للدتخل المباشر. لذلك فقد تكلفت بالتدخل المباشر في الصومال، لكن بعد فشلها كلفت اتيوبيا بالنيابة عنها، وهي الآن تراقب الوضع في السودان وتوجه بوصلته تجاه الاستحكام والانفراد به بدلا عن المبادرات العربية والأوروبية.
أما الاتحاد الأوروبي وفرنسا فيرجع اهتمامهما بالمنطقة إلى الحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وترتبط فرنسا بمصالح اقتصادية وعسكرية وثقافية -الفرنكوفونية- مع دول افريقية كثيرة تشاد، ودول غرب افريقيا، وفي القرن الإفريقي شكلت جيبوتي بعد استقلالها أكبر حليف لفرنسا في المنطقة، إذ تعتبر الحامية الفرنسية في هذا البلد ثالث أكبر حامية فرنسية خارج فرنسا.
كما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى دعم الوجود الأوروبي في المنطقة، عبر التدخل في قضايا المنطقة اقتصاديا وسياسيا أيضا.
أما الصين فتمثل التحدي المستقبلي لكل من الولايات المتحدة وأوربا وفرنسا، وغيرها من الدول، إذ أصبح التغلغل الصيني في القرن الإفريقي وفي إفريقيا عامة تغلغلا اقتصاديا يقلق المصالح الدولية خصوصا في عقودها التجارية والنفطية واستثمارها في السودان (60% من إجمالي صادراته النفطية توجه إلى الصين) كما أن حوالي 800 شركة صينية تستمر في مجال التصنيع والبناء، والموانئ والسكك الحديدية والمرافق الاجتماعية الصحية والحكومية وبعروض مغرية تشجع الدول الإفريقية بالتوجه نحو الصين بدل التوجه إلى الدول الغربية لارتفاع تكاليفها وإجحاف شروطها المفروضة.
وفي نهاية المطاف يمكن القول إن القرن الإفريقي على أهميته الجغرافية والعربية والإسلامية والإفريقية فإنه لا يزال يرزح بين المطرقة والسندان، الأزمات الداخلية والتحديات المنافسة الإقليمية والدولية.
فالمصلحة تدعو اليوم إلى الاهتمام الإنساني بهذه المنطقة ورفع قضيتها فوق أي اعتبار اقتصادي أو عسكري أو إيديولوجي، ومطلوب من الدول العربية والإسلامية إيلاء هذه المنطقة مزيدا من العناية للتخفيف من أعبائها ورفع مستوى القيم الإنسانية بين مواطنيها وتنمية الحس التحرري من الهيمنة الدولية وعملائها المحليين وتشجيع التعليم الإسلامي والقيم الخلقية الكفيلة بإعادة تكوين الإنسان الإفريقي على القيم الإيجابية.