بسم الله الرحمن الرحيم
ألاَ ما أخفى مسارب الشيطان إلى النفس، وما أشقاها! ألا ما أشدها التواءً وما أدهاها!
وإن شئت فقل: ألا ما أظهرها وأبينها لمن يراها! وما أضعفها عند من كان لله عبداً، وما أوهاها!
وإن حصون الدعوة الإسلامية في الأمة، لهي أول ما يقصده الشيطان بالإغارة والحصار..! وإن قوافل الدعاة وصفوف العاملين للإسلام، لهي أول ما يرميه إبليس بفتن التشتيت والتفتيت، وعواصف التشريد والتبديد! وإن قطار الصحوة الإسلامية لهو أول ما يرومه اللعين بتضليل الاتجاه، وتحريف المسار..!
وإن مسلما ابتلي بشيء من هذا العمل الإسلامي، لا يجعل هذه الحقيقة الكبرى نصب عينيه؛ لهو مهدد بالخسران المبين والعياذ بالله!
أيها الشباب المكابد لحقائق القرآن!
أيها الجيل المستسقي من ربيع القرآن!
يا أبناء مدرسة القرآن الكريم!
يا حُمَّالَ كلمات الله!
أيها السائرون على أثر قافلة الأنبياء! تضربون في زمن الظلام، رجاء إيصال بصيص من نور إلى المستضعفين الحائرين!
ألاَ وإنها لنعمة كبرى -أيها الأحباب!- أن يكون المسلم منخرطا في مدرسة القرآن، يتتلمذ على عين الله، يتلقى رسالات القرآن، ويتزكى بكلمات الله!
لكن مدرسة القرآن -أيها الأحبة!- لها شرط إلهي عظيم، به تُنَاطُ كل طلبات الانتساب، ورغبات الانخراط.. وإنما الله -جل جلاله- هو وحده الذي يقضي فيها؛ فيقبل ما يشاء ويرد ما يشاء! هو وحده رب المدرسة، وهو صاحب الأمر فيها. وإن ذلك الشرط القرآني العظيم مسطور في كتاب الله، موضح ببلاغه المبين لجميع الراغبين.. ذلك هو: التحقق بمنـزلة الإخلاص!
يا جيل القرآن المجيد!
لقد أتى علينا حين من الدهر في خضم العمل الإسلامي، نجري ونلهث، ولكن بلا جدوى!
لقد كنا نسلخ من الأعمار السنوات تلو السنوات، ثم ننظر إلى آثار السير تحت أقدامنا؛ فنجد أنفسنا ما نزال لم نبرح مواقعنا الأولى.. تلك المواقع التي انطلقنا منها قبل أن نشيب! بل لقد وجدنا الأرض تغوص تحت أقدامنا! ووجدنا حصوننا الأولى تساقط أركانها الواحد تلو الآخر.. وكانت الصدمة شديدة؛ عندما تساءلنا عن أربعين عاما أمضتها الحركة الإسلامية في التبشير بشعاراتها؛ فوجدنا أنفسنا قد تأخرنا -بدل أن نتقدم- أربعين خريفا من الزمان! وأدركنا أن شيئا ما في محرك السيارة ليس على ما يرام! والخطر الأكبر أن المحرك كان مشتغلا يملأ الفضاء بالضجيج والعجيج! وأمعنا النظر إلى العجلات، فوجدنا أنها كانت فعلا تسير، ولكن إلى وراء..!
ووجدنا أنفسنا نتلقى الصفعات تلو الصفعات.. ولكننا لا ننتبه إلى رسالاتها ولا نفهم إشاراتها!
والقليل منا من عاد إلى “كطالوج” العمل الإسلامي، وبوصلته الدقيقة؛ قصد المراجعة: القرآن المجيد! لقد كان الشيطان -كلما تساءلنا: أين الخلل؟- يبادرنا بإلقاء أسباب منطقية كاذبة -ومن المنطق ما هو كاذب- تعمية عن جواب القرآن الواضح المبين!.. وكنا -مع الأسف الشديد- نصدق الشيطان! لأننا كنا ننسى ونغفل عن وجود شيء اسمه “الشيطان”! ولا نكاد نتذكر وجوده إلا عندما نقرأ بعض آيات من القرآن! وما لنا وللشيطان؟ إنه بعيد عنا.. إنه هناك في أعالي البحار النائية! ونحن هنا نشتغل في دعوة الإسلام! فلا يخطر بالبال أنه هو يدير معركة الشر من هناك، ويقود جنده في أوساطنا، بل في أعماق أنفسنا! ولقد انتصبت راية التحذير من هذا الشر الْمُبِيرن في القرآن: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ!}(فاطر: 6)
وننسى أن قرناء السوء من شياطين الجن يعملون لحساب إبليس في كل مكان! وأنهم يلابسون الأنفس ويخالطونها، يزينون لها الشهوات والشبهات! وننسى وننسى! ولا نتذكر إلا قليلاً!.. أم أن الشيطان غير موجود؟ أم أن القرين وهم؟ هل نحن في حاجة إذن إلى إعادة بناء أصول الإيمان في أنفسنا، وتعلم أبجديات الدين من جديد؟ كلا، كلا! نحن مسلمون مؤمنون، ولكن شدة الغفلة تكاد تخلط أحوالنا بأحوال غير المؤمنين والعياذ بالله! وكفى بذلك علامة كبرى على انحراف السير..!
ثم قرأت القرآن، فوجدت أن دعوة الإسلام دين! دينٌ يُعْبَدُ به الله الواحد القهار، وليست شيئا آخر! ما هي بانتماءات ولا شعارات، ولا أحزاب، ولا ألقاب! إنها دعوة للناس كل الناس، دعوة للتعرف إلى الله، وإلى رعاية حقوق الله قبل حقوق الإنسان!
وإن الدين لا يسمى “دينا” -على الحقيقة- إلا إذا كان عبادة لله رب العالمين! وإن العبادة لا تكون كذلك إلا إذا كانت خالصة لله!
وهنا وجدت جواب القرآن: الإخلاص!
وجدت جواب القرآن سيفا صارما يفصل ما بين الحقيقة والتمثال! وأبصرت هذا الفرقان العظيم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!}(الزمر: 2- 3) وكذلك: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ!}(الزمر: 11) ومثله قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ!}(البينة: 5) ومثل هذا وذاك من الفرقان كثير!
نعم هكذا هو الأمر إذن: (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!) وما ليس بخالص فليس له! وإنما هو لمن توجه إليه به صاحبه!.. ومعنى الخالص: النظيف الصافي على أكمل ما يكون الصفاء! كاللبن الصافي إذا لم يخلطه شيء ولو نقطة! كان لبنا خالصا، فإن وقع فيه شيء، ولو مقدار ذرة؛ فَقَدَ معنى كونه خالصاً!
ثم راجعت ما سلخت من عمري فشعرت بمقارض الحسرة والندم تمزق كبدي! فواأسفاه! واأسفاه!
وأبصرت أن قطار العمل الإسلامي كان يسير بنا مائلا منذ زمان.. حتى انحرفت عجلاته أخيراً عن سواء الطريق!..
وأبصرت أننا كنا نقدم دعوتنا وحركتنا ونضالنا، لا لله، ولكن لأنفسنا! لقد كنا نلبي نرجسية ذواتنا في التلميع والتسميع! وبهرتنا شهوة الميكروفون، والصور البطولية الكبيرة! ومضينا في طريقنا نستعرض عضلاتنا تحت شعار العمل الإسلامي، والمشروع الإسلامي! ودبجنا قاموسا من المصطلحات “النضالية” و”الحركية”، التي ضخمها الشيطان في قلوبنا، واستهوتها النفس المغرورة! وأنشأنا “علم كلام الحركي”، كلاماً نضيع به أعمارنا وأعمار الشباب!.. وبدل أن نجعل أنفسنا خادمة للدين؛ جعلنا الدين خادما لأنفسنا! نشاهد فيه انتصاراتنا نحن لا انتصارات الإسلام! وما أعظم الفرق بين شَفَقٍ مُشْرِقٍ وشَفَقٍ غَارِبٍ! ولكنهما يتداخلان ويختلطان على من ضل عنه تحديد بوصلة الزمن!
وأدركنا أننا قد ملأنا عقول أجيال من الشباب بفقاعات “الكلام”، وما أسسنا في قلوبهم ولا لبنة واحدة من حقائق القرآن! فتخرج طابور كبير من المتكلمين! وبقيت ساحة الدعوة الإسلامية خالية من العاملين!
لقد كان الصف الإسلامي -وما يزال- ينظر إلى قامته الطويلة العريضة، فيعجب بظله العالي العريض! وينسى أن الله وحده هو الذي يمد الظل ويقبضه! ويستمتع المتكلم منا في الجماهير، بحرارة التصفيق الملتهب بين يديه! وينتشي بتفوقه وبطولته! ثم ينصت جيداً إلى أنغام المديح والشعارات، ويطرب طرباً! فتتضخم في نفسه “أناه” الشخصانية والحزبية، أو الجماعية! ثم يلتفت ليرى أثر قدمه في الساحة، وصيت جماعته الكبير، فينتشي ويتلذذ بأناه.. ألاَ ما أشقاه!
ويسب آخرون الظلام بقوة، ويلعنون الطاغوت والطغيان! فينصتون إلى آثار تصريحاتهم على جمهور العوام، حتى إذا سكروا من تلقي كلمات الإعجاب، ومشاعر الانبهار؛ انتفخ الشيطان في نفوسهم فانتفخت عضلاتهم! ثم خرجوا يستعرضون ذواتهم على الناس! وهذا رسول الله سيد ولد آدم \ يفتح الله له مكة، عاصمة الطاغوت الأكبر يومئذ، فيدخلها مطأطئ الرأس فوق ناقته، ساجد القلب؛ تواضعا لله الواحد القهار! كما تذكر كتب السيرة. قال ابن إسحاق في روايته عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، في فتح مكة: (وإن رسول الله ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عُثْنُونَهُ (يعنى طرف لحيته) ليكاد يمس واسطةَ الرَّحْلِ!)(1) لشدة انحنائه فوق ناقته عليه الصلاة والسلام!
إن العمل الإسلامي الخالص لا يمجد الرموز والقيادات، التي تتحول في قلوب الأتباع إلى أوثان معنوية! وإنما يمجد الله الواحد القهار..! وإن المؤمن ليرى ببصيرته النافذة أن الشأن الدعوي، إنما يدبره الله وحده من فوق سبع سماوات، وما العاملون في صف الإسلام إلا عبيد وجنود..! فمن جَرَّدَ قَصْدَهُ لله تولاه الله، ومن خَلَطَ رَدَّ الله عليه عملَه، وفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد والعياذ بالله!
ويكفي المؤمنَ الكَيِّسَ الفَطِنَ -وإنما المؤمنُ كَيِّسٌ فَطِنٌ- أن يقرأ حديث: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى! فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ!)(2)؛ يكفيه هذا ليمتلئ خوفا وإشفاقا أن تتلوث أعماله الدينية والدعوية بشيء غير قصد الله!
أما حديث حساب المقاصد يوم القيامة، فله قصة أخرى، لا تكاد تطيقها النفس رَهَباً! فعن أبي هريرة ] قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: >إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ! قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ؛ فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ!<(3).
ومن ذا منا يمحص قلبه تمحيصا على ميزان جوابه لمن سأله : (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ! فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ!)(4)
ومن منا يصفي أعمالَه وأقوالَه بمصفاة رسول الله إذ قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ!)(5) ألا ما أشد استسهالنا لمثل هذه النصوص الشديدة! ألا ما أشد استهتارنا بمصيرنا الأخروي!
ولقد رأيت يقينا في كتاب الله، أن الطائفة المحرومة من ولاية الله وسنده العالي لا تصل أبداً! ورأيت يقينا أنه لا سبيل إلى التحقق بولايته تعالى إلا بالإخلاص! (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!).. (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)
إنه لا بد قبل أي خطوة – في طريق الدين والدعوة – من تمحيص هذا المعنى العظيم في القلب! لا بد من تحقيقٍ دقيق مع الذات، ومحاسبة للنفس صارمة! لا بد من استبطان السؤال: لماذا أفعل ما أفعل؟ ولمن؟ إن المجازفة بالهروب من تمحيص الجواب وتدقيقه، والفرار من تشريح النفس بمبضعه؛ لهو تعريض للعمر كله إلى الدمار والخسار..! ولهو مقامرة بالمصير الأخروي لصاحبه! وأي ندم ينفعه يوم القيامة إذا نُشِرَتْ الصحف، وانكشفت الحقائق على وجهها؟
أما المخلصون في دينهم ودعوتهم، فإنما هم الربانيون الفقراء إلى الله، المتذللون بين يديه تعالى، الذين يتبرؤون من كل أنانية تنظيمية، ومن كل حول حزبي، ومن كل قوة طائفية، أذلة على المؤمنين كل المؤمنين! ولسان حالهم يردد في كل خطوة يخطونها: (أن لا حول ولا قوة إلا بالله!).. وإنني لا أجد أَجَلَّ من وصف الله تعالى لهم في كتابه الحكيم، إذ قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ!}(المؤمنون: 60).
إن الإخلاص هو الدين، وإن الإخلاص هو الدعوة! وما فقدَ عبدٌ الإخلاص فيهما إلا فقدَ الدين والدعوة جميعاً!
إن الإخلاص أحبتي لا يتحقق لمؤمن إلا إذا كان عبداً أخروياً! ولا يكون المؤمن الحق إلا عبداً أخرويا! وما أشد هذا السؤال الإنكاري الرهيب الرعيب! إذ يطرق جدران القلوب بكلمات الله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ!}(التوبة: 38) وينتصب البيان الرباني بقوة، يرفع راية النذارة للعالمين: {اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ!}(الحديد: 20).
أم أن هناك عقيدة أخرى غير هذه؟ فما بالنا إذن نتردد ونتلجلج؟ ما بالنا نبحث لأهوائنا عن مسالك غير سالكة؟ ونرضى بالسير في مَحَالِكِ الظلام! كيف؟ وهذا نور الفرقان يتدفق في الآفاق!
إن العاملين المخلصين لا يتحدثون عن أنفسهم، ولا عن أحزابهم وجماعاتهم، ولا يمجدون ألقابهم ولا أنصابهم! وإنما يتحدثون عن دين الله، ويمجدون كتاب الله! عابدون لله في مساجدهم، عابدون لله في سلوكهم، عابدون لله في دعوتهم، عابدون لله في خطاباتهم، عابدون لله في وظائفهم، عابدون لله في معاشهم جميعاً! ما حَلُّوا بمكان إلا اتخذوه محراباً!
إنما المخلصون هم الذين يحضرون في المغارم ويغيبون عند المغانم!.. ولا يتزاحمون -باسم العمل الإسلامي- على المكاسب والمراتب والرواتب! إنهم يعطون ولا يأخذون، وينفقون ولا يُغَرِّمُونَ!.. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ!}(الأنعام: 90)
ولقد شاهدت يقينا أن لا طريق إلى الله إلا طريق الإخلاص! وأن ليس لشهادة: “أن لا إله إلا الله” -لتي هي عنوان الإسلام- من معنى غير الإخلاص!
وشاهدت يقينا أن كل ما وقع في شَرَكِ “أنا” و”نحن”؛ فَقَدَ حقيقة الإخلاص! وإنَّ طائفةً ارتفعت عنها يد الله ورعايته ما كان لها أن تصل، ولا أن تفوز أبداً!
ولقد رأيت كلمات القرآن الثقيلة، ترتفع فوق قلوبنا المغرورة، منذرة بعاصفة الآخرة الكبرى! العاصفة الكاشفة الناسفة! {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا!}(الفرقان: 23)
فيا قلبي العليل!.. إخلاصَك إخلاصَك! قبل فوات الأوان! إخلاصَك في كل كلمة، إخلاصَك في كل خطوة، إخلاصَك في كل حركة، إخلاصَك في كل سَكَنَةٍ، إخلاصَك في كل فكرة، إخلاصَك في كل خَطْرَةٍ! فالإخلاص هو صمام أمانك، وهو بوصلة سيرك، وميزان عملك، وضمان وصولك! وإنك إن تَعِشْ لحظةً واحدة بغير إخلاص؛ تكن قد وضعت مصيرك على فوهة مدفع الشيطان! فالنجاءَ النجاءَ، والبدارَ البدارَ، والفرارَ والفرارَ إلى الاحتماء بحصن الإخلاص قبل فوات الأوان!
وتسألني يا صاح: كيف السبيل إلى التحقق بالإخلاص؟.. وليس لي إلا أن أجيبك بكلمتين: الإخلاص قَرَارٌ ومُكَابَدَةٌ! أو قل: عزيمةٌ ومجاهَدةٌ! وإنما هذا قَبَسٌ ساطعٌ من نور القرآن، إنه من تجليات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(البقرة: 218). فكما ترى هذه مراتب ثلاث: الإيمان، والهجرة، والجهاد. فالإيمان أساس لا يصح عمل بدونه. لكن الإيمان لا يرتقي إلى مقام الإخلاص، والولاء الكامل لله إلا بالهجرة! فالهجرة هي القضية! وهي التي تحتاج إلى ذلك القرار وإلى تلك العزيمة!
نعم! إن الهجرة الحسية باعتبارها ضرباً في الأرض واغتراباً، لا يمكن أن تقع إلا بعد تفكير وتقدير، وطول تدبير! وذلك معنى العزم أو القرار. وكذلك هجرة الروح إلى منـزلة الإخلاص! لا بد فيها من قرار مكين متين، تتخذه النفس في خاصة أمرها، وتوثق عليه عهدها مع الله! وإلا فإن كبار القضايا لا تنال بالتمني!
حتى إذا انطلقت النفس في تصفية بواطنها، وتخليص رغائبها ومقاصدها، فَوَحَّدَتْ قِبْلَتَهَا قَصْداً واحداً، لا تخالطه الأغيار ولا تكدره الأكدار، فكان الله -جل جلاله- وحده هو مرادها، لا ترى لها مقصودا سواه، ولا تأذن للسانها بأي كلمة أو خطوة في الدين والدعوة، إلا إذا كانت خالصة لله؛ فإنها حينئذ تصبح في حاجة شديدة إلى الجهاد..! جهاد تقاتل فيه غارات الشيطان المتغيظ من اعتصامها بإخلاصها العظيم! ولا يجد الشيطان راحته حتى يكون له من عمل ابن آم حَظٌّ ونصيب! لكن المجاهد منصور بإذن الله! {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}(الصافات: 173).
ولا يزال عبد الله المخلص في مجاهدة خواطر التحريف والتضليل في نفسه حتى يلقى الله! وبذلك يتلقى المؤمن الخالص فرقان السير إلى الله، في دينه ودعوته، ويُرْزَقُ بوصلة الاتجاه! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الأنفال: 29).
تلك إذن هي طريق الإخلاص، وذلك هو مسلكه الفريد. قرارٌ ومجاهدة، فاتخذ يا صاح قرارك، وجهز سلاحك، والله معك!
فيا إلهي الرحيم..!
هذا قلبي الضعيف بين إصبعيك، تُقَلِّبُهُ كما أنت تشاء! ترى ظاهره وباطنه، وتعلم خافيه وجاهره، وتعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور..! فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك! اللهم احفظني بكلمة الإخلاص، واعصمني بحصن الإخلاص، واهدني بنور الإخلاص!
اللهم إني أعوذ بك من عُجْبِ نفسي وهواها، وأعوذ بك من طغيانها وطغواها، وأسألك النجاة من شرها وزيغ رؤاها! اللهم إني أعوذ بك أن ينبت فيها حظ لها، أو لأي أحد سواك! اللهم اجعل عملي خالصا لك وحدك، لا شريك لك! لا تسميع ولا تلميع! ولا تنميق ولا تزويق! اللهم إنما أنا عَبْدٌ، لا حول ولا قوة لي إلا بك؛ فأكرمني بولايتك، واجعلني من أهلك وخاصتك، وأدخلني في رحمتك، مع عبادك المخلَصين!
وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
د. فريد الأنصاري
——–
(1) سيرة ابن هشام: 2-405، والسيرة النبوية لابن كثير: 3-555. لكن سند الحديث غير متصل. وفي رواية للحاكم عن أنس – رضي الله عنه – قال: (دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكةَ يومَ الفتحِ، وذَقْنُهُ على رَحْلِهِ متخشعاً!) قال الحاكم: +هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه؛. وأخرجه البيهقي أيضا في دلائل النبوة.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه.
(5) رواه النسائي، وأبو داود. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وفي صحيح الترغيب.