قال يحيى بن جابر: خرجت أنا وخالد بن معدان وأبو الزاهرية، وأبو مرحوم العطار وهو أحد الصالحين، نريد بيت المقدس فنزلنا منزلا بفلسطين، فقال لنا رجل: إن هذه الأرض مسبعة (أي كثيرة السباع) فلا تنزلوها، فنزلنا وبتنا فيها، فجاء السبع، فقام إليه خالد بقوسه، فقال له أبو مرحوم: أبالقوس تقوم إليه يا خالد؟ فمشى إليه أبو مرحوم في قميصه حتى دنا منه، فقال له: أنت كلب من كلاب الله، ونحن عباد الله، جئنا نصلي في بيت المقدس، فلا تؤذ منا أحدا إلا أن يكون لك في أحدنا رزق. قال: وكأنما يكلم رجلا، فانصرف السبع عنا موليا، ونحن ننظر إليه.
> مختصر تاريخ دمشق لابن منظور
حديث نبوي وشعرحدّث عن عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، مولى بني أميّة، بسنده إلى عائشة: عن النّبيّ ، أنه كان قاعداً وحوله نفر من المهاجرين والأنصار، وهم كثير، إلى أن قال رسول الله : “إنّما مثل أحدكم ومثل ماله ومثل أهله كمثل رجل له إخوة ثلاثة؛ فقال لأخيه الذي هو ماله حين حضرته الوفاة، ونزل به الموت: ما الذي عندك، فقد نزل بي ما ترى؟ فقال أخوه الذي هو ماله: مالك عندي غناء، ومالك عندي نفع، إلاّ ما دمت حيّاً، فخذ منّي الآن ما أردت، فإني إذا فارقتك سيذهب بي إلى مذهب غير مذهبك، وسيأخذني غيرك”. فالتفت النّبيّ فقال: “هذا أخوه الذي هو ماله، فأيّ أخ ترونه؟” قالوا: ما نسمع طائلاً يا رسول الله. “ثم قال لأخيه الذي هو أهله وقد نزل به الموت: قد حضرني ما ترى، فما عندك؟ قال: لك عندي أن أمرّضك، وأقوم عليك، وأعينك، فإذا متّ غسّلتك وحنّطتك وكفّنتك، وحملتك في الحاملين، ثم أرجع عنك فأثني عليك بخير عند من سألني عنك”. فقال رسول الله للّذي هو أهله: “أيّ أخ ترونه؟” قالوا: ما نسمع طائلاً يا رسول الله. “ثم قال لأخيه الذي هو عمله: ماذا لديك؟ قال: أشيّعكإلى قبرك، وأقعد في كفنك، وأصاحبك في لحدك، وأؤنسك في وحشتك، و اقعد يوم الوزن في ميزانك ، أثقل ميزانك وأهب بـهمّك”، فقال النّبيّ : “أيّ أخ ترون هذا الذي هو عمله؟” قالوا: خير أخ يا رسول الله. قال: “فإن الأمر هكذا”.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فقام عبد الله بن كرز على رأس رسول الله فقال: يا رسول الله، أتأذن أن أقول على هذا شعراً؟ قال: “نعم”. قالت عائشة: فما بات إلاّ ليلته تلك حتى غدا عبد الله بن كرز، واجتمع المسلمون لما سمعوا من تمثيل رسول الله الموت وما فيه. قالت عائشة: فجاء ابن كرز على رأس رسول الله ، فقال رسول الله : “إيه يابن كرز” فقال: من الطويل :
إنّي ومالي والّذي قـدّمـت يدي *** كداع إليه صحـبـه ثـم قـائل
لأصحابه إذ هـم ثـلاثة إخـوة *** أعينوا على أمري الذي هو نازل
فقال امرؤ منهم: أنا الصّاحب الذي *** أطعتك فيما شئت قبل الـتّـزايل
فأمّا إذا جدّ الـفـراق فـإنّـنـي *** لما بيننا من خلّة غـير واصـل……
وقال امرؤ: قد كنت جدّاً أحـبّـه *** وأوثره من بينهم بالـتّـفـاضـل
غنائي أنّي جاهـد لـك نـاصـح *** إذا جدّ الكرب غـير مـقـاتـل
ولكنّنيباك عـلـيك ومـعـول *** ومثن بخير عند من هو سـائلـي…..
وقال امرؤ منهم: أنـا الأخ الـذي *** إخالك مثلي عند جهـد الـزّلازل
لدى القبر تلقاني هنالـك قـاعـداً *** أجادل عنك في رجاع التّـجـادل
وأقعد يوم الوزن في الكفّة التـي *** تكون عليها جاهداً في التّثـاقـل
فلا تنسني واعلم مكاني فإنّـنـي *** عليك شفيق ناصح غـير خـاذل
وذلك ما قدّمت من كلّ صـالـح *** تلاقيه إن أحسنت يوم التّواصـل
قالت عائشة: فما بقيت عند النّبيّ عين تطرف إلاّ دمعت. قالت: ثم كان ابن كرز يمّر على مجالس أصحاب النّبيّ فيستنشدونه فينشدهم، فلا يبقى أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ بكى.
بــلاغـة الـســؤالحُكي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ] أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بناتي وأمّهنّه
وكــن لنــا مــن الزمان جنّة أقسم بـالله لتفعلنه
فقال عمر ]: فإن لم أفعل يكون ماذا؟!
قال: إذن أبا حفص لأذهبنه..
فقال له عمر ] : وإذا ذهبت يكون ماذا؟
قال الرجل:
تكون عـن حالي لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنّه
وموقف المسؤول بينهنه إمــا إلــى نــار وإمـا جنة
فقال عمر رضي الله عنه لغلامه: يا غلام أعطه قميصي هذا والله لا أملك غيره لذلك اليوم لا لشعره.
ثم بكى ] حتى ابتلّت لحيته.
وقال أعرابيٌّ لهشام بن عبد الملك: أتت علينا ثلاثةُ أعوامٍ، فعامٌ أكَلَ الشَّحم، وعامٌ، أكَلَ اللحم، وعامٌ انتقى العَظْم، وعندكم أموالٌ، فإنْ كانت للَّه فادفَعوها إلى عباد اللَّه، وإن كانت لعباد اللَّه فادفعوها إليهم، وإن كانت لكم فتصدّقوا، فإن اللَّه يَجزي المتصدِّقين، قال: فهل مِن حاجة غير ذلك؟ قال:ما ضَربْتُ إليك أكباد الإبل أدَّرِع الهجير، وأخوض الدُّجى لخاصٍّ دونَ عام.
قال أبو الحسن: سمعتُ أعرابيٍّا في المسجد الجامع بالبصرة بعد العصر، سنة ثلاثة وخمسين ومائة، وهو يقول: أمّا بعد فإنّا أبناءُ سبيل، وأنضاءُ طريق، وفَلُّ سَنة، فتصدَّقُوا علينا؛ فإنه لا قليلَ من الأجر، ولا غِنَى عن اللّه، ولا عَملَ بعد الموت، أمَا واللّه إنّا لَنقومُ هذا المقام وفي الصّدر حَزازة، وفي القلب غُصَّةٌ.
> البيان والتبيّن للجاحظ
ما قيل في الخطورفع رجلٌ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر قصةً يعتذر فيها، فرأى خطه رديئاً فوقع: قد أردنا قبول عذرك، فاقتطعنا دونه ما قابلنا من قبح خطك، ولو كنت صادقاً في اعتذارك، لساعدتك حركة يدك، أو ما علمت أن حسن الخط يناضل عن صاحبه بوضوح الحجة، ويمكن له درك البغية.
وقال علي رضي الله عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً.
وقيل: حسن الخط إحدى البلاغتين.
بلاغة الجوابقيل لأعرابيٍّ: مالَكَ لا تضعُ العمامة على رأسك؟ قال: إنّ شيئاً فيه السمعُ والبصر لحقيق بالصَّون.
قيل لشيخٍ: ما بقيَ منك؟ قال: يسبقني مَن بين يديّ، ويَلحقني مَن خلفي، وأنْسَى الحديث، وأذكر القديم، وأنْعس في المَلاءَ، وأسهر في الخلاء، وإذا قمتُ قَرُبت الأرضُ منِّي، وإذا قعدتُ تباعَدتْ عنّي.
قال الأصمعي : قلت لأعرابي معه ضاجعةٌ من شاءٍ: لمن هذه؟ قال: هي لِلَّه عندي.
وقال رَجل لعمرو بن عُبيد: إنِّي لأرحمك مما يقول الناس فيك، قال: أسمِعتَني أذكر فيهم شيئاً? قال: لا، قال: إيّاهم فارحَمْ.
وكان نوفلُ بن أبي عقرب، لا يقعد على باب داره، وكان عامراً بالمارّة فقيل له: إنّ في ذلك نَشْرَة، وصَرْفَ النفوس عن الأماني، واعتباراً لمن اعتبَر، وعظةً لمن فكّر. فقال: إنّ لذلك حقوقاً يعجِز عنها ابنُ خَيْثمة، قالوا: وما هِي؟ قال: غضّ البصر، وردُّ التحيّة، وإرشاد الضالِّ، وضَمُّ اللُّقَطَة، والتعرُّض لطُلاّب الحوائج، والنّهي عن المنكر، والشُّغْلُ بفضول النظر، الداعيةِ إلى فضول القول والعمل، عادةٌ إن قطعتَها اشتدّت وَحشتك لها، وإنْ وصلتَها قطعتْك عن أمورٍ هي أولى بك منها.
وقيل لبعض العلماء: أيُّ الأمور أمتع؟ فقال: مجالسةُ الحكماء ومذاكرة العلماء.
> البيان والتبيّن للجاحظ
ثــلاثــة وثــلاثــةكان سلمان الفارسي يقول: “أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وأضحكني غافل لا يغفل عنه، و أضحكني ضاحك ملء فيه، لا يدري أرضى عنه ربه أم لا، و أبكاني ثلاث فراق الأحبة محمد وحزبه، و هو المطلع عند الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين و أنا لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة”.
وقال عمرو بن العاص: ثلاثٌ لا أناة فيهنّ: المُبادرة بالعَمل الصالح، ودَفْن الميِّت، وتَزْويج الكُفْء.
وقالوا: ثلاثة لا يُندم على ما سَلف إليهم: الله عزَ وجَلّ فيما عُمل له، والمَوْلى الشَّكُور فيما أُسْدى إليه، والأرضُ الكَريمة فيما بُذر فيها.
وقالوا: ثلاثة لا بقاء لها: ظِلُّ الغَمام، وصُحْبة الأشرْار، والثًناء الكاذب.
وقالوا: ثلاثة لا تكون إلاّ في ثلاثة: الغِنَى في النَّفس، والشَّرف في التَّواضع، والكرم في التَّقوى.
وقالوا ثلاثة لا تًعرف إلا عند ثلاثة ذو البَأس لا يُعرف إلاّ عند اللقاء، وذو الأمانة لا يُعرف إلا عند الأخذ والعَطاء. والإخوان لا يُعرفون إلا عند النَّوائب.
وقالوا: مَن طلب ثلاثة لم يَسْلم من ثلاثة: مَن طلب المالَ بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس، ومَن طلب الدِّين بالفَلْسفة لم يَسلم من الزًندقة، ومَن طلب الفِقه بغرائب الحديث لم يَسلم من الكَذِب.
وقالوا: عليكم بثلاث: جالِسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العُلماء.
وقال عمرُ بن الخطّاب رضوان الله عليه: أخوفُ ما أخاف عليكم شُحٌّ مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه.
> العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي