إذا كان القرآن الكريم قد بنى التصوّر الديني على أساس (الغيب) باعتباره المصدر اليقيني للمعرفة، فإنه أكدّ في الوقت نفسه على ضرورة وأهمية (التجريب)، واعتماد (الحواس)، وتعميق صلة (العقل) بما حوله في حقول النفس والطبيعة والحياة والكون القريب، لاكتشافها وتسخيرها لخدمة الحضارة البشرية ورقيّها. ونحن نجد هذه (المسؤولية) الملقاة على عاتق العقل والحواس في الآية الكريمة : {ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً}(الإسراء 36). وهناك ما يزيد على خمسين وسبعمائة آية -على وجه التقريب- دعت المؤمنين إلى ضرورة اعتماد الطاقات الحسّية والعقلية، والقدرات التجريبية، لاكتشاف قوانين الطبيعة والحياة وتسخيرها لخدمة الإنسان.
إن تأكيد القرآن الكريم على الإيمان (بالغيب)، لم يمنعه من التأكيد على الحسّ والتجريب والاختبار والنشاط العقلي والممارسة الواقعية.. بل على العكس.. يتساوق معه، يوازيه، ويعتمده في تعميق الإيمان بالغيب كتفسير يقيني للوجود بما فيه من دقة وضبط وتوافق ونظام.
يؤكد هذا أنّ ما عرضه القرآن الكريم حول بعض القوانين والسنن الكونية من معطيات (في حقول الحياة والطبيعة والفلك.. إلى آخره) جاءت النظريات والكشوف العلمية -أخيراً- لكي تؤكدها وتوضح أبعادها التي خفيت على أفهام أجيال كثيرة في الماضي، وهذا هو مصداق الآية الكريمة {سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبيّن لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟}(فصّلت 53).
والتحقّق الذي تشير إليه الآية المذكورة تؤكده وتشهد به آخر معطيات العلم، والاستنتاجات التي تقوم عليها، وهي كثيرة متنوعة، ويكفي ها هنا أن نشير إلى واحدة منها فحسب تكتسب أهميتها من كونها تجيء من خارج دائرة الإسلام : شهادة الباحث الفرنسي المعاصر (موريس بوكاي) الذي قضى شطراً من عمره يدرس الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة.
إنه يقول : “إن الإسلام قد اعتبر دائماً.. أن هناك اتفاقاً بين معطيات الكتاب المقدس والواقع العلمي، وأن دراسة نصّ القرآن في العصر الحديث لم تكشف عن الحاجة إلى إعادة النظر في هذا، وسوف نرى فيما بعد أن القرآن يشير إلى وقائع ذات صفة علمية، وهي وقائع كثيرة جداً، خلافاًَ لقلّتها في التوراة، إذ ليس هناك أي وجه للمقارنة بين القليل جداً لما أثارته التوراة من الأمور ذات الصفة العلمية، وبين تعدّد وكثرة الموضوعات ذات السمة العلمية في القرآن، وإنه لا يتناقض موضوع ما من مواضيع القرآن العلمية مع وجهة النظر العلمية. وتلك هي النتيجة الأساسية التي تخرج بها دراستنا.
“لقد قمت أوّلاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة، باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكنت أعرف، قبلهذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقّق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث” : (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، دار المعارف، القاهرة ـ 1977 م، ص 11 ـ 12، 13).