بسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، وبعد؛
فنتحدث اليوم عن شيخ جليل القدر، حسن الخلق والخلقة؛ تميز بين أهل العلم في عصرنا هذا بتواضعه وزهده وورعه وصبره على المشاق والمتاعب في سبيل ربه تعالى، إنه الشيخ الفاضل، العالم العلامة، الفهامة النحرير، فقيه الأمة وفريد النوع؛ الدكتور فريد الأنصاري، الذي سافر إلى وليه ومولاه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه،وجعله في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وجمعنا به في دار كرامته مع سيد الدعاة وإمام المتقين نبينا محمد ، آمين.
لازلت أذكر وأنا في جنوب المغرب بإقليم الرشيدية الحدث العظيم الذي أخبرني به أكثر من واحد، عندما قالوا لي بالحرف الواحد : إن أبا الشيخ سيدي حسن رحمهما الله تعالى قال لابنه (العالم الجليل) وهو ينصحه عندما رآه قد حصل على الوظيفة، وأخذ في شراء الكتب والاشتغال بها زاهدا في الدنيا ومافيها، أي بني : اجمع قليلا من مالك لبناء مستقبلك ولاتصرف ذلك كله في طلب العلم، وكان منزل والد الشيخ أنذاك مجاورا لإحدى المقابر، فأخذ الشيخ بيد أبيه رحمهما الله تعالى، ثم ذهب به إلى المقبرة المجاورة لهما، فقال له قولته الجميلة اللامعة المضيئة : ياأبتي إن المستقبل هو الذي تنظر إليه وتراه إنه القبر، فكان بذلك واعظا لنفسه وأبيه، وبالتبع لنا جميعا. يرحمك الله تعالى يامصباحا من مصابيح الدجى ويا علما من أعلام الهدى، يامن عشت حياتك كلها غارفا من إرث الحبيب المصطفى ، مبلغا إياه.
ثم لازلت أيضا أذكر الشيخ رحمه الله تعالى وهو في آخر لحظات العمر يتبادل أطراف الحديث مع جدي إذ قال له وهو يحاوره : مالك ولهذه الكتب الكثيرة!؟ وهذه الكتابة!؟ (التي كانت مشروعه في بصائر القرآن الكريم وتفسيره) فقال له مجيبا على سؤاله : إنني لأزداد مرضا إن لم أكتب، وكان رحمه الله تعالى يكتب بالليل والنهار وهو على فراش المرض المرير، ثم تواصل حديثهما فكان أن قال الشيخ لجدي : كيف حالك؟ فأجابه قائلا : لابأس قليلا، قال الشيخ : ألاتستطيع أن تركع وتسجد!؟ قال : بلى، قال الشيخ : إذن قل الحمد لله كثيرا، وكان الشيخ أنذاك لايستطيع الصلاة إلا بعينيه. ثم تواصل الحديث بينهم، فقال الشيخ في آخركلامه مع جدي راضيا بقضاء الله تعالى وقدره : هناك من ولد مقعدا لايتحرك؛ أما أنا ولله الحمد والمنة فقد عشت خمسين سنة أتكلم،وأتحرك وأمشي، ثم قال بعد هذه الكلمات، كلمة خرجت من أعماق مشاعر الوجدان : الحمد لله يكفي ماعشته من هذه السنوات.
لقد كان الشيخ رحمه الله تعالى على قدر كبير من المعرفة الحقة بالله تعالى التي جعلت حياته زهدا وورعا وخشية وحملا للرسالة بكل ماآتاه الله تعالى من قوة.ترى وتُبصر في وجهه هم الدعوة، يفكر فيها الليل والنهار، بل وفي كل لحظة وحين، فكان بذلك رحمه الله تعالى يخاطب العقل والقلب معا بكتاب ربه العلي الكبير، الذي كان ديدنه وشغله الشاغل؛ لأنه عاش بالقرآن ذاكرا ومع القرآن متفكرا وفي القرآن متدبرا، حاملا له في صدره، عاملا به في حياته، مبلغا إياه للأمة.
هذا وإن ماكتبناه من كلمات لهو قليل، قليل في حق شيخنا الجليل، إذ القلم واللسان يعجزان عن الحديث والكتابة في أمثال هؤلاء الفحول من العلماء الربانيين المخلصين الصادقين. أسال الله تعالى الرحيم الرحمان بمنه وفضله وجوده وكرمه؛ أن يمن على شيخنا الجليل بمنه، ويتفضل عليه بفضله،ويجود عليه بجوده، ويتكرم عليه بكرمه، ويسكنه فسيح جنانه،ويجعل قبره روضة من رياض الجنان، ويرحم والديه وموتى المسلمين أجمعين، ويلحقنا بهم مسلمين ثابتين لامبدلين ولامغيرين، ويجمع أبواه وزوجه وأبناءه وإيانا أجمعين معه في دار كرامته بجوار سيد الدعاة وإمام المتقين نبينا محمد ، آمين.
ذ. إدريس الأنصاري