في ذكرى الهجرة النبوية الكريمة وفي الظروف التي تمر بها الأمة الإسلامية نشعر أكثر بالحاجة إل النصر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالإيمان والأخوة ..فما هي العلاقة بين هذه المفاهيم؟..
أولا: الإيـمـانفي النصوص التي شملت مصطلحي الإيمان والنصر يلاحظ أن الإيمان:
> جاء عاما كما في الآيات التي تحدثت عن إيمان المهاجرين والأنصار (في سورتي التوبة والحشر).
قوله تعالى: {والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}(التوبة 100).
قوله تعالى : {للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}(الحشر 8).
> وجاء خاصا- أي الإيمان برسوله – في :
آل عمران قولهتعالى :” وإذ اخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومننّ به ولتنصرنه قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا…”
والأعراف في قوله تعالى : {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون…}.
والسبب:
> أن آية آل عمران هو ميثاق أخده الله جل شأنه على النبيئين مفاده أن من أدركه النبي محمد عليه أن يؤمن به وينصره.
> وآية الأعراف هو وعد من الله تعالى بأن يكتب رحمته الواسعة لمن آمن بالنبي محمد واتبعه من أهل الكتاب كما تنص على ذلك كتبهم (التوراة والإنجيل) وتخصيصه الأمر بالإيمان بمحمد ونصره لمحمد يجد تفسيره في أنهم كانوا مؤمنين بالغيب كله ولم يبق لهم إلا الإيمان بمحمد واتباعه ونصره إذا بعث وعلى هذا فإيمان من آمن بمحمد من أهل الكتاب(1) وإيمان المهاجرين والأنصار يلتقي في كونه:
- إيمانا بالله وحده لا شريك له.
- وما يتفرع عن أصل الإيمان بالله تعالى من أصول الإيمان الأخرى.
- وما يتفرع عن هذه الأصول من فروع الطاعات.
- وفي كل ذلك إتباع للنبي محمد باعتباره المتلقي بحق عن الله والمبلغ بأمانة ما تلقاه.
وإيماننا بالغيب مستقر في سويداء القلب.
وإيماننا بالفروع هو مقتضى الإيمان بهذا الغيب.
وإنما نبرهن عليه بفعل واعتقاد وجوب(2) ما نفعل.
وبترك واعتقاد حرمة ما نترك.
ونصر الله تعالى باعتباره مصدرا للهداية(3).
ونصر رسول الله باعتباره مبيّـنا لهذا الهدى هو ما يفعله المؤمن ويعتقد أنه يجب عليه فعله(4) لا لحاجة الله تعالى إلى ذلك ولكن كدليل على صدق الإيمان {وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}.
وعلى هذا تكون العلاقة بين النصر-كفعل يصدر عن المؤمن- وبين الإيمان علاقة الجزء بالكل.
الإيمان بضع وسبعون شعبة ونصر الله ورسوله شعبة.
ثـانـيـا: الـهـجــرةالهجرة ترك الدار والقوم لأن الغالب عندهم أنهم لا يتركون قومهم ولا يتركهم قومهم, إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم(5).
والهجرة تقتضي فعلين.
فعل من المهاجر وفعل من قومه الذين هجرهم.
والقرآن الكريم يذكر الفعلين:
- قال تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا}.
- وقال تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم…}.
والهجرة كانت من فعلهم والإخراج كان من فعل غير معلوم لهم -المقصود قومهم-.
والظاهر أنهم اختاروا الخروج لا لأنهم رغبوا فيه.
ولكن لأنه كان أفضل من البقاء في قومهم لما وجدوا منهم.
{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّـك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا قال أو لو كنا كارهين…}(6).
وقال تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّـكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا…}(7).
وفي النصين دليل على أنهم خيّـروا بين ترك الإيمان والعود إلى ملة الكفر وبين ترك الدار والقوم.
ولم يكن هذا الاختيار سهلا لذلك قال الله تعالى {أخرجوا} ولما ذاقوا حلاوة(8) الإيمان فضلوا ترك الدار والقوم على تركه و لذلك قال تعالى {هاجروا} وفي مجيء الهجرة بعد الإيمان في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا…} إشارة إلى أن الهجرة إنما تفرعت عن الإيمان لأنهم لما تمسكوا بالإيمان وتمسك قومهم بالكفر وأجبروهم على الاختيار بين الكفر ومغادرة القوم والأوطان اختاروا الإيمان ولم يكن لهم بـدّ من قبول مغادرة القوم والأوطان.
وفي مجيء الهجرة قبل النصر في قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله…}، إشارة إلى أنهم قصدوا من الهجرة أمرين:
- ابتغاء الفضل من الله والرضوان.
- نصر الله ورسوله .
وعليه تكون علاقة النصر بالهجرة علاقة الفرع بالأصل أو بالأصح علاقة الوسيلة بالغاية لأنه تفرع عنها ولم يكن متيسرا بدونها.
كما أن الهجرة ترتبط بالإيمان ارتباط الفرع(9) بالأصل لأنها مما يجب فعله مع اعتقاد وجوبها إذا تعيّـنت.
هذا فيما إذا كانت الهجرة فعلا ونصر الله ورسوله قصدا وكلاهما كسب لمؤمن واحد أو جماعة واحدة من المؤمنين.
أما عندما يقع الاستضعاف والاضطهاد لطائفة من الناس لا لجرم اقترفوه ولكن لحق آمنوا به ودين اعتنقوه فيجدون في أرض الله الواسعة من يؤويهم وينصرهم، لا لقرابة تجمعهم ولا لطمع فيما عندهم.. ولكن لما يجمعهم من الإيمان بنفس الذي من أجله اضطهدوا وبسببه من أرضهم طردوا..
فيرون أن من نصره نصرٌ من آمن به، وهو أمر قد وجب، حالتئذ تتعين الهجرة. كما تعينت قبلها النصرة.. وإيواؤهم لهم -في جوهره- إيواء للحق الذي يجمعهم، واجتماعهم في خندق واحد هو جمع لقوتهم دفاعا عن إيمانهم ونصرة له كما وقع بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار”.
فيكون النصر قسمة بين فعليهم.
سهم للهجرة والآخر للنصرة.
فيكون بين الهجرة والنصرة تكامل.
ثـالـثــا: الأخـــوةهي رابطة بين فرعين لأصل واحد.
وكونها بين فرعين(10) – تقتضي من جملة ما تقتضيه- المساواة وتكون بالنسب(11) كما تكون بالعقيدة الصحيحة – وهي المقصودة في هذا الموضع.
واخترت الحديث عن الأخوة بدل الحلف(12).
لأن الأحلاف التي كانت قبل الإسلام بين بعض من أسلم لم يزدها الإسلام إلا قوة.
ولكنه إذ أقرها بقاء نهى عنها ابتداء(13).
وعوض المجتمع المسلم عنها بالأخوة.
والمؤاخاة التي آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار أنتجت- لظروف استثنائية- حقوقا استثنائية(14) فلما زالت هذه الظروف حرمت الأحلاف وبقيت الأخوة الإسلامية وما تقتضيه مما لم ينسخ ومنه النصر.
فتكون الأخوة فرعا عن الإيمان لأنها كانت به لا بغيره.
ويكون حق المؤمن على أخيه المؤمن فرعا والأخوة له أصل ويكون النصر جزءا مما تفرع عن الأخوة من الحق.
متى ندرك هذه المعاني ونقدرها قدرها وتجتمع قلوبنا عليها وتجمعنا في خندق واحد توجه طاقاتنا للذي هو أولى…” قل عسى أن يكون قريبا”. والحمد لله رب العالمين.
——-
(1) – كعبد الله بن سلام ووهب بن منبه وغيرهم رضي الله عنهم.
(2) – أو جواز
(3) – قال تعالى:{وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف 42) وقوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات 17)
(4) – بينه عليما وبينه تطبيقا.
(5) – التحرير والتنوير لابن عاشور ج 10/84
(6) – الأعراف 87
(7) – إبراهيم 16
(8) – قال ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار
(9) – لأن الهجرة ليست مما يعتقد فتكون أصلا (أو فرعا) عقديا بل هي مما يجب فعله مع اعتقاد وجوبه إذا تعيّـن.
(10) – لا تكون بين أصل وفرع كالأبوة أو البنوة التي تجعل الأب سابقا فيكون صاحب فضل.
(11) – الأخوة بالنسب بأنواعها الثلاثة لا تغني شيئا إذا لم تزكها أخوة الإيمان.
(12) – وهما معنيان أوردهما المفسرون لقوله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم}.
(13) – في ما ورد عن رسول الله ( أنه قال: ” لا حلف في الإسلام. وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”
(14) – منها التوارث بين المهاجرين والأنصار دون ذوي أرحامهم.