الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والذي قهر عباده عامة بالموت، ولكن ليجتبي أولياءه وينقلهم من دار التكليف والبلاء، إلى دار التكريم وحسن الجزاء. وينقل أعداءه من حياة اللهووالشهوة، إلى حياة البؤس والشقوة. والصلاة والسلام على من اختار الرفيق الأعلى، فأحسن الاختيار بعد أن أدى الأمانة، وبلغ الرسالة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعلى آله وصحبه والسائرين على دربه، المقتفين أثره إلى يوم الدين.
صعوبات في تناول حياة فريد ومختلف أنشطته :
هذه كلمة متواضعة حول فقيدنا المرحوم، وأستاذنا الشاب الشيخ الدكتور فريد الأنصاري، أبثها إلى كل محبيه وغيرهم ، نزولا عند رغبة بعض الأحبة الكرام ، واستجابة لطلبهم الملح في الإسهام في التعريف به، بحكم العلاقة الخاصة به منذ أيام الدراسة الثانوية والجامعية وما بعد ذلك. وقد شق علي هذا الأمر حقيقة :
أولا: لأن الفقيد رحمه الله منذ مدة طغت علاقاته العامة على علاقاته الخاصة، وصار ملكا لكل الناس. وما عاد للخاص فيه ميزة على العام. من جالسه امتلكه، سواء سبق أن عرفه أم لم يعرفه. يشرح له صدره، ويفتح له قلبه، ويغمره محبة حتى ليشعر أنه له وحده ولا يعرف غيره من الناس.
وثانيا: أن الفقيد رحمه الله صار علما من أعلام الأمة. صعد إلى القمة في مجال العلوم الشرعية خاصة، وبلغ من الشموخ وسعة الأفق ما يجعل من أراد أن يتحدث عن شخصيته لا يعرف من أين يبدأ وأين ينتهي. وماذا يقدم وماذا يؤخر. وأي جانب من جوانب شخصيته أولى بالحديث من غيره… لهذا أرجوالمعذرة مسبقا في هذه الكلمة إذا تعثر القلم أوقصرت العبارة أوحادت عن القصد الفكرة. فالخطب أيضا جلل، والمصيبة عظيمة، ولكن رضانا بقدر الله واجب، قدر من نحن عبيده، أبناء عبيده، أبناء إمائه، نواصينا بيده، ماض فينا حكمه، عدل فينا قضاؤه. فاللهم اجرنا فيمصابنا هذا وأعقبنا خيرا منه.
مناقب الشيخ فريد الأنصاري :
لقد كان أخونا وشيخنا فريد الأنصاري مذ عرفته يتميز بخصال عظيمة أحسب أنه كان لها كبير الأثر في أن يبلغ ما بلغه في مجال العلوم والمعرفة والدعوة والجهاد والصلاح والإصلاح… منها :
1- التخلق بأخلاق فاضلة : إذ كان رحمه الله وهوفي مراحل دراسته يتحلى بأخلاق سامية، قلما تجد بعضها في شاب في مثل سنه. كان هينا لينا مسالما، قد يتورع أحيانا حتى عن طلب حقه. شديد الحياء لا يعرف صخبا ولا فحشا ولا بذاءة في اللسان. حسن المعاملة مع الناس، حسن المعاشرة لأهله، بارا بوالديه. معروفا بالرفق والحلم والأناة، صابرا متحملا قساوة وغلظة أبيه في معاملته رحمهما الله جميعا. فكأن فريدا الشاب/الطالب استجمع أخلاق الأنبياء، مما جعله أهلا ليكون من ورثتهم.
2- الشغف بِطلب : إذ أنه كان رحمه الله منهوما بطلب العلم، منشغلا بالقراءة والكتابة لا يفتر عنهما. فحين كنا نحن نصرف بعض أوقاتنا إلى جانب الدراسة في ممارسة أنواع الرياضات، والتنقل ببن الأحياء والمدن في الزيارات الهادفة وغير الهادفة، والسفر في الرحلات والمخيمات، وحضور المجالس المفيدة وغير المفيدة… لا تجده هو إلا معتكفا على كتاب، أوماسكا قلمه يكتب في فن من الفنون.
3- الاشتغال بالدعوة إلى الله : إذ ظهر انشغاله بِهَمِّ الدعوة مبكرا. فلا يسمع بمجلس من مجالس الإيمان والخير في أي مكان إلا بحث عنه ودعا أصدقاءه إليه. وإن كنت أنسى فلا أنسى خطبه التي كان يلقيها علينا أيام الجمعة ويرتجلها منذ المرحلة الثانوية في مسجد المؤسسة بمدينة گلميمة بالرشيدية.
4- الهمة العالية والعزم المتقد : إذ كانت له همة عالية، وعزم يفت الحجر ويفل الحديد. وإذا تعلق قلبه بشيء لا يهنأ له بال حتى يدركه. مهما كلفه ذلك من تعب ومشقة. وصدق من قال:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادهاالأجسام
كما أنه إذا اقتنع بشيء قام بتنفيذه دون تردد، فلا يأبه بأحد، ولا يخاف في الله لومة لائم.
5- الغيرة على دين الله والحجاج عنه فقد : كان رحمه الله أيضا غيورا على عقيدته ودينه ويدافع عن قيمه ومبادئه ضد المخالف، كيفما كان ومهما كان موقعه. لازلت أذكر بهذا الصدد مناقشاته ومجادلاته لبعض أساتذتنا ذوي الميولات اليسارية والقناعات العلمانية الذين درسنا عندهم في شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب ب “ظهر المهراز” بفاس. ومن أبرزهم المفكر حسن حنفي الذي كان من زعماء اليسار الإسلامي، الحديث النشأة في تلك الفترة. وهو تيار يساري تبنى أسلوبا جديدا وذكيا في مواجهة الفكر الإسلامي الأصيل، الذي يمثل في زعم اليساريين الرجعية والتخلف، ويقف عائقا أمام التقدم والتحضر. فبدلا من الهجوم المفضوح والمعلن على الإسلام وأهله كما كان يفعل الشيوعيون الإلحاديون، والترويج لثقافة تبدوأجنبيةوغريبة عن البلاد والعباد شكلا ومضمونا ،وهوأسلوب أبان الواقع والتجربة عن فشله في تحقيق أي تغيير منشود عندهم ،لجأ هذا التيار الجديد إلى النبش في تاريخ التراث الإسلامي والبحث فيه عما يمكن أن يعتبر جذورا له من قريب أومن بعيد، بشكل أوبآخر. أولاَ: لإظهار أصالته ونفي الغربة عنه .وثانيا: لإحداث التغيير من داخل الثقافة الإسلامية، لا من خارجها مما لم يثبت جدواه.كان مفكروهذا التيار يضعون المجهر على بعض الطوائف والحركات الشاذة في تاريخ الإسلام، فيضخمون أمرها، ويضفون عليها طابع الثورية والتقدمية والتحررية والوقوف في وجه الاستغلال والظلم والديكتاتورية والبورجوازية وهلم جرا… من المصطلحات المتعلقة بقاموسهم الثقافي المروج له، والمقصود “تأصيل” مفاهيمه وترسيخها.
ولم يكن الطالب فريد يناقش ويجادل لمجرد الغيرة والحماس والعاطفة الدينية فحسب، كما كان يفعل كثير من الطلبة ،بل كانيعتمد الحجج والبراهين والأدلة الدامغة، ويحاور مخالفيه بعلم يثير الدهشة والإعجاب، ويدل على مستواه الدراسي والعلمي المتقدم.
الشيخ فريد الأنصاري العالم الموسوعي
كثيرا ما نقرأ أونسمع في الأجواء الثقافية والحوارات العلمية تردد “مضى عهد العالم الموسوعي الجامع لعدة علوم” وهذا زمن التخصص بل تخصص التخصص. وكل ما يأتي من غير المتخصص فلا عبرة به. ومهما سلمنا بهذا قاعدة في هذا العصر الذي بلغت الدقة والتعمق في الأمور بفعل التقنيات الحديثة ووسائل البحوث المتطورة مبلغا كبيرا يستلزم هذا التخصص، فإن لكل قاعدة استثناءات. والاستثناء يؤكد القاعدة ولا ينفيها. ولعل فقيدنا العزيز الشيخ فريد الأنصاري نموذج لهذا الاستثناء. فقد اجتمع فيه رحمه الله ما تفرق في غيره. فقد كان نجما في مجال العلوم الشرعية في أغلب تخصصاتها، من فقه وأصول وتفسير وحديث وغير ذلك… وإذا ولجت مجال الشعر والأدبوالرواية… خلته لايتقن شيئا غير ذلك.
وإذا تحدثت عن الدعوة والتربية والوعظ والإرشاد، فهوابن الميدان، ولا يزايد عليه أحد في ذلك. ومؤلفاته وكتاباته ومنتجاته السمعية والبصرية خير شاهد على باعه الطويل في كل هذه الأمور. وقس على ذلك في كل ما اهتم به أوتحدث فيه أوكتب.
الشيخ فــريد الـزمــان الأنصاري الـمجـاهـد الـمـصـلـح :
إذا كان من حق تركيا المسلمة أن تفتخر برواد صحوتها المعاصرة، وعلى رأسهم الشيخ بديع الزمان النورسي، فإن أبناء المغرب من حقهم أن يفخروا برواد وعلماء صحوتهم أمثال فريد الزمان الأنصاري . فإذا كان النورسي رحمه الله قد حمل في دعوته شعار “إنقاذ الإيمان أولا” بالرجوع إلى القرآن الكريم، لأنه الشعار الأنسب في عهده لتلك المرحلة الدعوية في تركيا، وذلك لانتشالها من براثن الإلحاد والكفر والضلال الذي عم البلاد والعباد، بفعل الردة التي أحدثها وقعد لها كمال أتاتورك، بوحي ودعم من الغرب، إذا كان الأمر كذلك في بلاد آخر خلافة إسلامية، فكأني بفريد الزمان الأنصاري يحمل في دعوته شعار “إنقاذ الوحدة الإسلامية” بالعودة الراشدة إلى القرآن الكريم. فهي العاصمة من قاصمة التشرذم والتمزق التنظيمي. كل تنظيم بما لديهم فرحون.لقد انشغل فريدنا رحمه الله في عهوده الأخيرة بمشروع القرآن الكريم، وأصبح همه الرئيس، وحوله يدندن في أغلب كتبه ومقالاته ودروسه وخطبه وحواراته وما يتحدث به عبر وسائل الإعلام بمختلف أشكالها. لا يفترعن الدعوة إلى إحياء مجالس القرآن والحياة بالقرآن، تلاوة وتدبرا ومدارسة وتعليما وتعلما وتزكية… لإيمانه اليقيني بأنه “بالقرآن- وبالقرآن فقط !- بعث الله الحياة في عرب الجاهلية فنقلهم من أمة أمية ضالة إلى أمة تمارس الشهادة على الناس كل الناس.”(1) وأنه “لاتحرير للأمة اليوم في معركة هذا العصر إلا بالقرآن، لأن طبيعة المعركة الجديدة قائمة على “الكلمة”، والقرآن العظيم هو الكلام القاهر فوق كل كلام”(2). فالقرآن الكريم هو سر كل إصلاح منشود، ومفتاح كل وحدة حقيقية، وما بعد عنه يفرق ولا يجمع،ويزيد الجرح فتقا لا رتقا، والعظم كسرا لا جبرا، بحسب القرب أوالبعد من كتاب الله.
قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}(آل عمران : 103). وقال أيضا:{وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}(الأنعام : 154) وأيضا:{ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك}(هود : 108). ورحمة ربي أودعها في كتابه وكلامه {وننزل من القرآن ما هوشفاء ورحمة للمؤمنين }(الإسراء : 82).
وقال : >وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<(3).
وأودعها كذلك في رسوله المبلغ والمبين لكتابه وكلامه: {وما أرسلناك إلارحمة للعالمين(الأنبياء : 107). فهو رحمة مهداة. وكل من اقتدى به ودعا بدعوته ودل الناس على كتاب ربهم صار أيضا رحمة بقدر حظه من ذلك. “فيا أيها الأحباب! لنعد إلى مدرسة رسول الله ! لنعد إلى مدرسة القرآن! ومجالس القرآن، على منهج القرآن! صافية نقية ،كما شهد عليها الله جل جلاله في جيل القرآن ، لا كما تلقيناها مشوهة من عصور الموات في التاريخ !”(4)
لقد ذكرني موت أخي وشيخي فريد الأنصاري بموت الأستاذ المجاهد عبد الرزاق المروري رحمهما الله جميعا، الذي كان له باع طويل في نسج خيوط وحدة من وحدات هذه الأمة. فمات وقد أحبكت حلقاتها، والمتوحدون لا يزالون يعيشون نشوة الفرح بهذه الوحدة، فكأن القدر قال له: انتهت مهمتك. فلبِّ داعي مولاك ودع المشوار لغيرك يتمه.
فجاء الشيخ فريد الأنصاري ليضع ومن معه لهذا النسيج وغيره مضمونه الحقيقي، الذي تبين بعد هزات الواقع ولطماته أنه في حاجةماسة إليه. إنه مشروع القرآن الكريم. فهوجوهر النسيج ولبه وحقيقته، الذي يضمن استمراريته وسلامته ونموه الطبيعي، ويبرز شخصيته الحقيقية والمتميزة، وإلا كان مظهرا خداعا بدون مخبر، وإطارا براقا بدون محتوى صحيح. ومثل هذا لن يصمد أمام الأعاصير الهوجاء التي تصادفه، ولن ينجح في ابتلاءات الدعوة التي تمحصه،وقد لا يعمر إلا قليلا، وإن عمر فبشخصية ممسوخة،لا طعم لها ولا رائحة ولا لون أصيلا.
إن مشروع القرآن الكريم في حقيقة الأمرهومشروع للأمة بكاملها.لذا ينبغي أن يكون من القرآن المنطلق، وإليه المرجع، ومنه تؤخذ التصورات والرؤى، وتستمد الخطط والمناهج، وفي ضوئه تعالج قضايا الحياة الفردية والجماعية. وهوالكفيل بإخراج الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ومن جور الأديان والإيديولوجيات إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. قد فعل ذلك في القديم حقا، ويفعله اليوم وغدا إن سلمت النوايا وصدقت العزائم في العودة الراشدة إليه مرة أخرى.
لقد ضج بعض رفاق الطريق حين تحول الشيخ من موقع خاص إلى موقع عام، تحول اقتضته طبيعة المهمة الضخمة التي أخذها على عاتقه من جديد. فقد أبى رحمه الله أن يبقى مجرد غصن في شجرة لا يتسع المجال فيها لتنفيذ مهمته،وقابلية المحل لها ضعيفة. إنما اختار أن يكون هونفسه شجرة تحيا وتنموفي تربتها الطبيعية، وتتغذى بموادها الأصيلة فتخرج تلقائيا أغصانها المتميزة، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فاكهة طيبة ذات طعم لذيذ وذوق خاص ومنظر جميل. من أقبل عليها وذاقها وأكل منها لم يعد يشتهي غيرها، ولا يرضى بسواها بديلا عنها.
إنها الشجرة التي تحيا وتنموفي تربة الوحي وتتغذى بآي القرآن الكريم وأحاديث المصطفى . وتنبت طاعات وعبادات وأعمال صالحة. وتثمر أخلاقا طيبة ومعاملات حسنة وعلوما نافعة ومعارف نيرة… تشبع نهم الأكلة الجائعين، وتستهوي المحرومين الضائعين، وتستقطب الضالين التائهين. وهي الشجرة الوحيدة المؤهلة لتلتقي حول أصلها أصول الأشجار الطيبة،وتلتف حول أغصانها باقي الأغصان الأخرى.
وكذلك كان الشيخ فريد، شجرة تمتح من عروقها عروق باقي الأشجار الأخرى في الباطن مهما بانت المخالفة في الظاهر. وتنتفع بعطاءاته وثماره في السر مهما برز التعفف في العلانية.وعم خيره القريب والبعيد وكذا الخاص والعام.كان أمة وحده داخل الأمة.فكان موته خسارة أمة ومصيبة عظمى للأمة بكاملها.
الشـيـخ فـريـد الـعـارف بــاللـه :
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: “يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه وثناؤه على ربه”(5). فكم كان شيخنا رحمه الله باكيا على نفسه خائفا من تقصيره رغم اجتهاده. شاكيا ذنوبه رغم ورعه وتقواه. مظهرا تذللـه وافتقاره إلى رحمة ربه وعفوه، مرددا في مقدمات كتبه عبارة “وكتبه عبد ربه، راجي عفوه وغفرانه فريد بن الحسن الأنصاري الخزرجي، عفا الله عنه وغفر له ولوالديه ولسائر المسلمين”. فإذا كانت مقدمة الكتاب عادة هي آخر ما يكتب منه، رغم وجودها في أوله، فإن هذه العبارة التي يرددها الشيخ هي آخر الآخر، وكلمات النهاية. وهي عبارة دالة عما يخالج نفسه من الشعور بالتقصير والتفريط والنقص، وعدم أداء ما ينبغي كما ينبغي. وهي بمثابة الزفرة التي يخرجها من انتهى من عمل مضنٍ، تعب فيه وبذل جهده ومع ذلك يراه ناقصا ومعيبا. فلا يجد بدا من التوجه إلى سيده ومولاه ليقل عثرته، ويصفح عنه، ويجبر انكساره، ويتجاوز عن خطاياه.
اسمعه وهويبعث رسالة القرآن فيقول : “…إلى جموع التائبين، الآيبين إلى منهج الله وصراطه المستقيم.. إلى المثقلين بجراح الخطايا والذنوب مثلي! الراغبين في التطهر والتزكية.. والعودة إلى صف الله، تحت رحمة الله..”(6).
واسمعه أيضا وهو يخاطب نفسه : “فيا نفسي المغرورة ألا وإنه لا وزن لعمل يومئذ لم يبـن بعد الإيمان على صلاة صحيحة، فماذا تغني العلوم والفهوم؟ وماذا تغني المناصب والألقاب؟ وما تنفع الأعمال والأموال؟ إن لم يكن العبد عبدا لله حقا، قائما بحق ربه العظيم، ساجدا وراكعا، خاشعا وخاضعا؟…”(7).
وكم كان شيخنا رحمه الله أيضا مثنيا على ربه شاكرا لأنعمه، لا يفتر عن الثناء على ربه وذكر مننه وفضله عليه، معتبرا أعماله من كرم ربه وهدايته. يقول في مقدمة كتابه (بلاغ الرسالة القرآنية…): “فإني أحمد الله مرة أخرى أن أرشدني اليوم إلى تقديم هذه الرسالة الصغيرة…”(8).
بل كان في كل ما كتب ونثر إنما يروم ويدعوغيره إلى توثيق الصلة بالله والتماس الطريق الصحيح إليه بشكل أوبآخر: ” ميثاق العهد في مسالك التعرف إلى الله”، “بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق”، “جمالية الدين : معارج القلب إلى حياة الروح”…
وكانلسانه رحمه الله رطبا بذكر الله، يذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه. وكثيرا ما تراه يمسك لحيته ويخرج من أعماق قلبه كلمة “الله” فتنساب على لسانه كما تنساب قطرة الندى على ورقة النبتة.
الشيخ فـريد العــالم بكتاب الله المتـأثر بـروحـه :
تتلمذ شيخنا في دراسته العليا على يد الإمام الشاطبي وهومن بين الشيوخ الأموات / الأحياء الذين أخذ عنهم الأصول. فكان خير تلميذ لخير أستاذ. أبصرمن خلال مقاصده المقاصد، وخبر بمعاشرة كتبه الدروب والمنافذ. ثم من خلال الدراسات المصطلحية تمكن من إحكام المفاتيح والأدوات المنهجية. ثم كأني به بعد ذلك وقد أحسن التلقي لرسائل النور، والاستنارة بنور الرسائل، الذي هوقبس من ضياء شمس الرسالة الأم… فأجاد العروج في مدارج السالكين، ولبس دروع الربانيين المتقين، لينطلق بأتم عدة واستعداد،بكل هذه الذخيرة والعتاد، متنقلا بين منازل الوحي يستفتح المغالق، ويستكشف الأسرار والكنوز. فإذا به يبصر مالا يبصر غيره، ويسمع مالا يسمع غيره، ويتذوق مالا يتذوق غيره، ويشعر وهويتلقى كلمات الله بما لا يشعر غيره. إنه يحي الحياة الأخرى، حياة الأرواح لا حياة الأشباح. فلها موازينها الخاصة، وحواسها الخاصة، وأذواقها الخاصة.
ولما كان الجسد إطارا للروح، لا ينفصمان كليا إلا بالموت، فإن كلا منهما يؤثر ويتأثر بأحوال الآخر. إذا تقوى أحدهما ونشط، ضعف الآخر وتعب وتضايق منه. واقرأ إن شئت قوله تعالى: {لوأنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}(الحشر : 21).
فثقل القرآن الكريم باعتباره روحا(9) لا يتحمله الجبل على ضخامته، فيخشع ويتصدع. فكيف بالإنسان وهو دون الجبل، بل لا مجال للمقارنة. ألم يكن وهوينزل عليه الوحي يتصبب جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد، كما ورد في حديث كيفية نزول الوحي. ألم تكن دابته تبرك به وهوينزل عليه من الثقل. وهل شيب رسول الله إلا هود وأخواتها؟
وما أدراك ! لعل روح الشيخ فريد قد عظمت بتعلقها بروح القرآن. فما عاد ضعف الجسد الطيني يحتمل قوة الروح الديني، فحدث التشقق والتصدع. ومهما حاول الأطباء جهدهم رأب الصدع ورتق الفتق لم يفلحوا. فقد اتسع الخرق على الراقع واشتد شوق الروح الى بارئها، واختارت الرفيق الأعلى كما اختاره الحبيب المصطفى، بعد تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة ،والنصح للأمة. وحدث الانفصام، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد كان موت أخي فريد بالنسبة للغافلين مثلي صفعة فوق رأس الغفلة -كما يعبر أحد العارفين رحمه الله- علنا نتنبه ونستيقظ. وكأن لسان الحال يقول: جاء دورك أيها الغافل فتجهز.عما قريب يأتيك داعي مولاك فتجيب رغم أنفك .كيف ترضى وتطمئن إلى حياة دنيا، حقيقتها ابتلاء ، وعيشها عناء ،وعمرانها هباء، ومصيرها إلى فناء.أمرها والله غريب، وتعلقك بها أغرب. أيا مغرورابطول الأمل ! كأنك لا تصدق : {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}(النحل : 77). انهض من سبات غفلتك، لا تنخدع بالأحلام اللذيذة، والآمال الكاذبة!
“من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”(10).
اشتدت ظلمة ليل الدنيا ، وأذن فجر الآخرة بالبلج. ما بقي من عمر الدنيا إلا ما بين الفجر الكاذب والفجر الصادق.وها قد أذن بلال في الناس ونادى ” الصلاة خير من النوم ” ،وأوشك ابن أم مكثوم أن يعلن عن فجره.
صدقت يا رسول الله : >كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ<(11) فحسبنا الله ونعم الوكيل: هكذا أمر صحابته أن يقولوا حين أخبرهم بهذا الخبر فثقل عليهم الأمر.
طبت أخي فريد حيا، وطبت ميتا. فنم قرير العين. نم نومة العروس فأنت في ضيافة الرحمان، عند أرحم الرحماء، وأكرم الكرماء، بين الأحبة الفضلاء. فالسلام عليكم دار قوم مؤمنين، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر.
د. محمد محتريم
————
1- مجالس القرآن من التلقي إلى التزكية (ص5).
2- من مقال للمرحوم في مجلة “حراء “العدد16/السنة الرابعة/(يوليو-سبتمبر 2009)ص31.
3- رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن [4/2074).
4- مجالس القرآن ص 9.
5- الفوائد ص 41 ( دار المعرفة ط 1420 هـ 2000 م).
6- مجالس القرآن ص 4- 5.
7- الدين هوالصلاة ص 7- الطبعة 1 2009 – طبع الكلمة للطبع والإشهار.
8- بلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق ص 4 منشورات ألوان مغربية ط 2002.
9- قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}الآية 49 من سورة الشورى.
10- أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6098).
11- من حديث أبي سعيد الخذري فيما رواه الترمذي في سننه وقال : حديث حسن رقم 3243.