أ.د. الشاهد البوشيخي
قال الله عز وجل : >وكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً من أمْرِنَا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ ولا الإِيمَانُ، ولَكِنْ جَعَلْنَاهُ نَوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنا< (الشورى : 49).
1- القرآن روح :
الروح ها هنا هو كتاب الله عز وجل، هو التعبير عن سر الوحي المشعر بأنه يحدث في الإنسان من الخصائص ما يحدثه الروح حين ينفخ في الانسان ليصيره خلقا آخر ؛ فإن الإنسان يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، فيصير بذلك خلقا آخر غير الخلق الأول تماما.
وإن الإنسان -الفرد والمجتمع معا- يصير بالقرآن خلقا آخر، لكون هذا القرآن ذا طبيعة تشبه طبيعة الروح تماما، ولذلك كان التعبير فيه كالتعبير في الـروح ؛ ففي الروح قال الله عز وجل : >وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوح، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي…<(الإسراء : 85) وهاهنا قال: >وكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً من أمْرِنَا< نفس اللفظ تقريبا، روح من أمر الله، والروح هي من أمر الله.
2- أثر روح القرآن في الإنسان الفرد :
وهذا الكتاب عبر عنه بالروح إشارة إلى هذه الوظيفة التي يقوم بها في الإنسان ؛ فالإنسان قبل أن يسري ماء القرآن في عروقه وكيانه يكون ميتا بصريح القرآن : >أَوَ مَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَْاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا<(الأنعام : 123). أما عندما يخالط هذا القرآن قلبه ويسري منه كما يسري الدم في مجموع الكيان فإنه يصير فعلا شيئا آخر من حيث طاقاته، من حيث تصوراته وأفكاره، من حيث قدراته، من حيث إمكاناته، من حيث منجزاته، لأنه بالقرآن يهتدي إلى ربه ويعرف مولاه سبحانه وتعالى فيتوكل عليه حق التوكل ويستمد منه كل شيء : فمن اسمه “القوي” يستمد القوة، ومن اسمه “العليم” يستمد العلم، ومن اسمه “الحكيم” يستمد الحكمة، ومن اسمه “الرحمــن” “الرحيم” يستمد الرحمة، وهكذا وهكذا… يفيض الله عز وجل عليه -بفضله ورحمته- من أنوار أسمائه سبحانه وتعالى، فيشيع في كيانه ما يشيع، ويصير طاقة غير عادية إذا قورنت بما كانت عليه قبل.
ولنستحضر أمامنا النماذج الأولى على سبيل المثال :
أولا : النموذج الأكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا كان بغير القرآن؟ وماذا صار بالقرآن؟. خلال أربعين سنة قبل أن ينزل عليه “اقْرَأُ بِاسْمِ رَبِّك” ماذا استطاع أن يفعل في الجزيرة العربية؟ ماذا استطاع أن يفعل في النفوس، في الرجال، في الجماعات، في البطون والعشائر والتاريخ؟…
لكن بابتداء نزول القرآن، بابتداء تنزل هذا الروح صار خلقا آخر تماما. كان “بشرا” فازداد على ذلك “يوحى إليه”، حين أوحي إليه هذا القرآن صار هو نفسه نورا منيرا : >إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرا<(الأحزاب : 46)، تنوّر بنور القرآن (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ)، فصار سراجا منيرا. وكل مسلم يسري في كيانه القرآن أيضا سيكون له قطعا نورا، لكن لكل -على حسب الاستعداد ونوع الطينة والمعدن- نور.
أقول : لننظر في النماذج الأولى، وعلى رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف صار بهذا الروح مولودا جديدا فأحدث ما أحدث في التاريخ إلى قيام الساعة، عجن الجزيرة العربية عجنا آخر، وجمع إنسانها المفرق المشتت جمعا صاغه صياغة جديدة في صورة تجمع بشري عالي المستوى، عالي الكيف، به أنجز العرب المسلمون ما أنجزوا عبر التاريخ من تلك الفتوحات التي سرت في الكرة الأرضية مسرى النور، ضاربة في أقاصي الغرب وأقاصي الشرق.
النموذج الثاني : عمر رضي الله عنه، ماذا كان عمر قبل القرآن؟ ماذا كان عمر قبل أن ينفخ فيه روح القرآن؟ كان راعي إبل، كان إنسانا من الناس الذين يوجدون في عدد من القرى والمدن. لكن بمجرد أن نفخ فيه روح القرآن وسرى فيه نور القرآن، وتمكن من قلبه وعقله وكيانه القرآن، نجده يتحول إلى طاقة كبيرة، طاقة تضرب الأمثال في القدرة على الإدارة ومواجهة التحديات والمستجدات، على اتساع المكان وامتداد الزمان وتنوع الإنسان. فهل كان عمر يطيق شيئا من ذلك أو يحلم بالقدرة على شيء من ذلك لولا روح القرآن؟
ونموذج ثــالث : هو ابن مسعود رضي الله عنه، هذا الراعي -كذلك- الصغير النحيف، كيف تحول بعد أن نفخ فيه روح القرآن أيضا؟ كيف تحول فأصبح يتحدى جميع القرشيين، ويقرأ عليهم القرآن جهارا في وقت لم يكن يستطيع أحد أن يعلن فيه القرآن على الملإ.
ونموذج رابـــع : هو بلال رضي الله عنه، وأنتم تعلمون قصته… وهكذا وهكذا…
وكل تلك الأحوال التي أصبحت لهؤلاء الرجال إنما هي بسبب ذلك المعنى الجديد الذي حل فيهم : معنى القرآن الذي له خاصية الروح الذي به يتحول الكيان المادي الطيني خلقا آخر، كما تحولت طينة آدم عليه السلام إلى ما تحولت إليه فاستحق السجود له بعد أن نفخ الله فيه من روحه.
3- أثر روح القرآن في الإنسان الجماعة :
حدث هذا في الأفراد، ومثل ذلك حدث ويحدث في الجماعة والجماعات ؛ القرآن يحدث أيضا في الكيان الجماعي العام تأثيرا كتأثير الروح أيضا : يوحد جزئياته ويضمها ضما. ولنقارن حال الميت عندما يغادره الروح، ما الذي يحدث له؟ إنه يتحلل تحللا كاملا إلى عناصره الأولية الترابية وغيرها، وتتبدد تلك العناصر، ويذهب كل عنصر إلى جهته ليلتحم بعنصره الطبيعي في الأرض. ما الذي غادر هذا الكيان بالموت؟ يموت الشخص ونحن ننظر إليه، ما تغير فيه شيء، ولكن تغير فيه كل شيء، ما الذي غادره ؟ غادره شيء اسمه الروح، ذلك الروح إذن هو الذي وحد كيانه وكان يمنعه من التحلل والتجزؤ وتبرؤ بعضه من بعض. ذلك الروح هو الذي أعطاه كل تلك الإحساسات وأعطاه كل تلك القدرات.
نفس الأمر يقال بالنسبة إلى الجماعة المؤمنة أو الأمة الإسلامية، وإن تمثلت في صورة صغيرة. إنها عندما يحل فيها هذا الروح، أي في مكوناتها من أفراد وأسر وجماعات، تتحول من حيث الطاقة ومن حيث الفعالية ومن حيث التأثير إلى خلق آخر. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما استطاع أن يفعل ما فعل في الجزيرة العربية إلا بهؤلاء الذين حل فيهم روح القرآن فتجمعوا في صورة كيان موحد عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -إشارة إلى هذا المعنى- بالجسد : “مَثَلُ المُؤمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَل الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى.” (متفق عليه). شبه جميع المؤمنين في علاقة بعضهم ببعض بالجسد الواحد، وإنه -وايم الله- لا يوجد مثال يمكن أن يشخص فيه الإنسان معنى الالتحام الكامل، معنى التوحد التام، معنى التضامن، معنى التلاحم والتراحم التام، كمثال الجسد أبدا لا يوجد.
ودونك هذا المثال : أنت تسير بسرعة كبيرة، فتبصر عينك -فجأة- هوة سحيقة أمامك، تنقل العين بسرعة الخبر إلى مركز التحليل في الدماغ فيعطي الجواب بسرعة فيصدر أوامره إلى الرجل وإلى الكيان كله فيتحول إلى وجهة أخرى. هذا التساند، هذا التلاحم، هذا التكامل، هذا البناء بهذا التفاعُل بهذه الصورة لا سبيل إلى تصويره بغير الجسد الواحد.
فما الذي يحيل هاته الأجسام المنفصلة المتفرقة إلى جسم واحد له هذه الإحساسات، له هذا الالتحام، له هذا النوع من العلاقة في أجزائه بعضها ببعض، وفي نوع الأجهزة التي يتكون منها، وفي علاقة هذه الأجهزة بعضها ببعض، في تخصصاتها وتكامل تخصصاتها وكونها تسير عبر مركز كبير يوجهها.
كل ذلك -أقول- إنما كان بفضل روح القرآن. ولذلك يجب العمل على أن نحل فينا روح القرآن لنحيا، لننتقل من حالة الموت إلى حالة الحياة من حالة التشرذُمِ إلى حالة الأمة الحيَّةِ الملتحِمَة.
4- أثر روح القرآن في الإنسان النوع:
وإذا كان الميت لا حول له ولا طول، فإن الحي على قدر نوعية كينونته تكون تأثيراته في الكون. والإنسان، الذي نحن منه، طراز خاص من المخلوقات ؛ يشعر بذلك كون الله عز وجل استخلفه في أرضه >وإِذْ قَالَ رَبُّكَ للْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة<(البقرة : 29)، وكون الله عز وجل أسجد له ملائكته، وجعلهم حفظة له، وكون الله عز وجل سخر له كل ما سواه : >أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ<(لقمان : 19)، فهو مخلوق من طراز خاص ذو قدرات عالية جدا. ومن لفظ الخليفة فيه نشعر بتكامل الأجيال الذي شرحته آيات كثيرة منها: >إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُم وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَة ِقَوْمٍ آخَرِينَ<(الأنعام : 134). فالخليفة من معانيه الكائن الذي يخلف بعضه بعضا : الخلافة المادية العادية نتيجة الكبير الذي يموت والصغير الذي يأتي، والخلافة في تداول أمر الدنيا والسيادة على الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون.” (رواه مسلم). وبهذا الامتداد في الخلافة يستطيع الإنسان أن ينجز أشياء عظيمة لا تخطر على بال : الأجيال اللاحقة تنجز أشياء لم تكن تخطر أبدا على خاطر الأجيال السابقة، وبتكامل الأجيال من لدن آدم -عليه السلام- حتى قيام الساعة تتم رسالة الانسان -فعلا- على وجه الأرض، وتتم الخلافة، وتؤدى الخلافة. فالإنسان نوع يخلف بعضه بعضا. وإن الذي استخلف في الأرض ليس هو آدم وحده، وإنما جنس آدم، جنس آدم هو المستخلف حسب نظام الاستخلاف وهذا يقتضي تراكم هذه المعرفة. وتكامل العلم الانساني الذي أصله من الله عز وجل، لا من سواه، فما من علم علم يدور في هذا الكون على يد هذا الإنسان كافرا كان الآن أو مؤمنا إلا وأصله من الله جل جلاله، من الهدى النازل من عنده جل ذكره. ومن الهدى المودع في الإنسان الذي تشير إليه الآية : >أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى<(طه : 49). والله هو الذي علم الإنسان مالم يعلم بالوحي وبغير الوحي وإن كان العلم الذي جاء به الوحي هو علم العلم، لأنّهُ علمُ الميزانِ >لَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبيَّناتِ وأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والمِيزَانَ لِيَقُومَ الناسُ بالقِسْطِ< (الحديد : 24).
5- كيف تحل فينا روح القرآن؟
فهذه الروح -أقول- ينبغي أن نجتهد في أن نحلها فينا، ولا يكون ذلك إلا بالإقبال على كتاب الله عز وجل تلاوة وفهما وعملا وتبليغا ؛ لأن نجاة الإنسان، أي إنسان، لا سبيل إليها إلا إذا قام بهاته الوظائف الأربع. (والعصر إن الإنسان لفي خسر) خسر دائم مستمر، في خسران مستمر، دائما ينزل تحت، خُلِق في أحسن تقويم ثم رده الله إلى أسفل سافلين إلا… فهو في خسر إلا (الذين آمنوا، وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). إذا قام الناس فقط بواحدة (آمنوا) ولكن لم يعملوا الصالحات ولم يتواصوا بالحق ولم يتواصوا بالصبر، هل ينجو هؤلاء الناس من الخسران؟ لا سبيل! الآية لا تقبل هذا وترفضه. والواقع كذلك يرفضه.
إن الإنسان إذا لم يتحول إلى عنصر مشع، إذا لم يتحول إلى نبع فياض، فإنه -حتما- سيدنس في يوم ما، حتما سيمكن للنجاسة أن تستقر فيه بصورة من الصور. لكن إذا كان -باستمرار- يرسل الخير، يفيض منه الخير، يدعو إلى الخير، يفعل الخير ويدعو إلى الخير، فإنه يصير غير قابل لاستقبال الشر، القابلية فيه تنعدم ؛ لأنه مشغول باستمرار بدفع الخير إلى الغير، إنه كالماء إذا لم يتحرك أسن ونتن، أما إذا كان يجري فإنه يطهر، والمؤمن إذا ظل فقط يؤمن ويعمل الصالحات في عمومها، ولم يوص بالحق ولم يبلغ الحق ويتحمل تكاليف تبليغه، فإنه لا يكون جاريا، ولا يكون كالماء الجاري طاهرا، فلذلك لا بد مما ليس منه بد.
6- نحن أمة الشهادة على الناس:
نحن أمة ليست كالأمم، نحن أمة من طراز خاص، الله أخرجها، (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ولم يقل : “خرجت للناس” ولكن قال : (أخرجت) هناك من أخرجها ولم تخرج لذاتها، ثم إنها أخرجت للناس، فهي بطبيعتها إذن أمة الدعوة. ولذلك رأى بعض علماء الاجتماع المسلمين أنه ينبغي أن يضاف في تعريف المسلم أنه داعية. فحينما نقول : المسلم فمعناه هو ذلك الإنسان المؤمن بالله الداعي إليه، لأن صفة الإسلام مرتبطة في صميمها من حيث التطبيق التاريخي ومن حيث واقع النصوص بالدعوة إلى الله عز وجل… نحن أمة الشهادة على الناس : (ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير) هذه ممهدات، (وجاهدوا في الله حق جهاده) هنا دخلنا، والجهاد أوَّل ما يَبْتَدِئُ، يَبْتَدِئُ بجهاد الدَّعْوة (وجاهدهم به) أي بالقرآن (جهادا كبيرا) هاهنا يبتدئ الأمر. (وجاهدوا في الله حق جهاده) حتى ذروة السنام (هو اجتباكم) فهذه نقطة الإخراج، هو الذي اختاركم اختيارا لهذا الدين. وفعلا، هل آمن أحد منا أو اهتدى إلى الإيمان بمحض عمله؟ أي نعمة أسلفها قبل أن يكون مؤمنا فيستحق بها نعمة الإيمان؟ جميع من آمن آمن بمحض تفضل الله عز وجل، بمحض رحمته، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما استحقوا ما استحقوا بمحض فضل الله عز وجل ورحمته : (ووجدك ضالا فهدى)، (وإن كنتم من قبله لمن الضالين). فبمحض الرحمة الخالصة كان هذا الإيمان على كل أحد، وكان هذا الخير. (وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم، وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم). وها هنا ما أردتُ : (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)، ما هي الوظيفة؟ نفس الوظيفة، نفس وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وظيفة أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ليكون الرسول شهيدا عليكم) (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) وأنتم أيضا (لتكونوا شهداء على الناس)، وكل جيل يشهد على الجيل الذي يليه، وكل بحسب مستواه، فالأعلم الأكثر حظا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكثر شهادة، وهكذا.. نسأل الله سبحانه عز وجل أن يجعلنا وإياكم من ذوي الحظ العظيم.
أقـول : أحد علماء الاجتماع المسلمين في هذا العصر أدخل هذه الصفة، صفة الدعوة، في تعريف المسلم نفسه وأنه لا يكون مسلما على الحقيقة حتى يكون مبلغا لهذا الخير، متحملا في سبيله ما كتب الله له. لذلك يجب على كل واحد منا وعلى المسلمين جميعا أن يجتهدوا في إشاعة هذا الخير لتحُلَّ هاته الروح أيضا في سواهم، ولتحل في كل المسلمين إن شاء الله عز وجل. فيصيروا بسبب ذلك في وضع جديد هو الوضع الذي نحلم به جميعا : أن نصير جميعا -من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها- أمة واحدة كما أراد الله لنا، ولن نصير كذلك إلا بالروح الواحدة التي تجمعنا : روح القرآن التي يجب أن تحل في الأفراد وتحل في المجموعات وتحل في الأقطار لتحل بعد في الجسم كله.
7- ضرورة فهم >رسالة< القرآن :
وإذا شعرنا بهذا تمام الشعور، فإن الواجب يتجه أولا إلى تفهيم المراد بهذا الدين وبهذا القرآن، ذلك بأن القرآن رسالة مرسلة على يد رسول الله يبلغها إلى الناس (وأُوحِيَ إِليَّ هذَا القرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ) هذه الرسالة آتية من رب الناس، ملك الناس، إلـه الناس، هذه الرسالة إذا لم نعرفها، إذا لم نقرأها كلها كَيْفَ نَفْهَم المراد؟ وكيف نطبق المراد؟ وكيف يحصُلُ لنا المراد من المراد؟ هذه الرسالة إذا اكتفينا بقراءتها ولم نفهمها حَصَل إشكال كبير. فيجب أن نقرأ ونفهم لأنا إذا لم نفهم المراد كيف نجيب عن المراد يوم لقاء الله عز وجل، وكيف نستطيع في هذه الحياة الدنيا أن نستفيد من هذا المراد، لأن الله عز وجل أرسل هذا الخير لإسعاد البشرية، أرسل هذا الخير ليحيا الناس حياة طيبة، ليصيروا طيبين (تتوفاهم الملائكة طيبين)، طابوا مطعما، طابوا مشربا، طابوا تعبيرا، طابوا تفكيرا، طابوا أعمالا، طابوا أحوالا حتى صاروا طيبين. فيقال لهم : (سلام عليكم طبتم) : طبتم في الدنيا فادخلوا إلى الدار الطيبة لتتمتعوا بالطيبات الأخروية، ادخلوا إلى دار السلام : (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين). اللهم أدخلنا برحمتك في رحمتك فإنك تختص من تشاء برحمتك. اللهم ارحمنا وارحم بنا واجعلنا رحمة منك في عبادك للعالمين.
8- وجوب معرفة >العربية< لفهم القرآن :
أقــول : إذا لم نفهم المراد من هذه الرسالة فلن نستطيع الاستفادة منها، وهذا يوجب على كل مسلم أن يعرف لسان القرآن لأنه نزل (بلسان عربي مبين)، وأي حيلولة بين المسلمين وبين معرفة هذا اللسان وإتقان هذا اللسان لمعرفة المراد من القرآن يُعْتَبَرُ جريمةً كبرَى، منكرا كبارا. فعلى المسلمين أن يحسوا بهذا الأمر الإحساس الذي ينبغي له، فيجتهدوا في تعلم هاته العربية، وفي تعليمها وفي تذويق أسرارها للناس ؛ لأنها المدخل الأساس لمعرفة كتاب الله عز وجل.
9- واجب وزارات التعليم في العالم الإسلامي :
وهاهنا يعظم واجب وزارة التعليم ووزارات التعليم في العالم الإسلامي وتعظم مسؤولية المؤسسات التعليمية وتعظم مسؤولية رجال التعليم، وتعظم مسؤولية المشرعين للتعليم والمنفذين للتعليم، وتعظم المسؤوليات بصفة عامة. وإنه لواجب أيُّمَا واجبٍ أن يُجْتهد فعلا في الإلحاح على جعل هذا التعليم قرآنيا ينطلق أولا من القرآن : يعلّم القرآن، يُحفظ القرآن، يفهَّم القرآن يحرص على أن يُسْبك، هؤلاء الأطفال الذين فطروا على الإسلام، على مراد القرآن، يُسْبَكُون على مضمون القرآن -نسأل الله التوفيق- كل يفعل من ذلك ما يطيق ويدفع في الاتجاه بما يطيق ؛ لأن فهم المراد من القرآن هو السبيل إلى تطبيق القرآن، وتطبيق القرآن هو الهدف من إنزال القرآن، إذا لم يفهم القرآن ولم يعمل بالقرآن فكيف تتصور الاستفادة من القرآن. إن مثل ذلك كمثل شخص جاءك يطلب منك أن تدله على مكان بعينه، فدللته دلالة دقيقة، ورسمت له مصورا للطريق الموصل رسما دقيقا جدا، ولكنه بدلا من أن يتبع ذلك ليصل أعرض عنه، فهل يستفيد هذا الشخص؟ مستحيل مستحيل أن تصله نتائج ذلك الإرشاد وتلك الدلالة.
فالقرآن هدى فعلا لمن اتبعه (يهدي به الله من اتبع رضوانه) أما من لم يتبع فلا سبيل له إليه. ولذلك يجب إزالة هاته الحواجز الكثيرة المتراكمة بيننا وبين القرآن : حاجز اللغة وحاجز القراءة، وحاجز الفهم وحاجز التطبيق، كما ينبغي إزاحة الصوارف التي هي ضروب من العوائق، إن الصوارف عن تطبيق القرآن هي موانع من تطبيق القرآن، فالملهيات بجميع أشكالها تلهي عن القرآن (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) هناك من يشتري لهو الحديث، وهناك من يصدِّر لهو الحديث، وهناك من يوزع لهو الحديث وهناك من ينتج لهو الحديث وهناك من ومن.. وهاهنا أيضا تأتي مسؤولية وزارات الإعلام في العالم الإسلامي وتأتي مسؤولية الجمعيات الناشرة للخير أو التي ينبغي أن تنشر الخير، ومسؤوليات من يحاضر ومن يَنْتَدي، ومن… ومن… من كل موزع للعلم وناشر للثقافة.
10- الآثار المرجوة لنفخ روح القرآن في الأمة اليوم :
وبمثل هذه الجهود المتواصلة، المتساندة المتكاملة، يمكن -إن شاء الله عز وجل- أن ينفخ في هذه الأمة روح القرآن، فإذا نفخ فيها من روحه ظهرت فيها أمارات الحياة. ومن أمارات الحياة الإحساس : إحساس بعضها ببعض إحساسا سليما، فإذا اشتكى منها مصر أو قطر تداعى له سائر الأمصار والأقطار بالعون والنصرة والتأييد، ولم يقل قائل منهم : مالنا ولكشمير وبيننا وبين الهند آلاف الكيلومترات؟ مالنا ولأوزبكستان وهي في شمال الأرض ونحن في جنوبها؟!.
إن روح القرآن إذا نفخت في الأمة أثمرت فيها كل تلك الوظائف التي سبق الحديث عنها : وظيفة الحياة، وظيفة النور، وظيفة الهداية، وظيفة الخروج من الظلمات إلى النور، وظيفة الشفاء، وظيفة الرحمة. ولذلك وجب أن نعمل على إزالة الحواجز بيننا وبين القرآن، وأن نجتهد في فهمه وتفهيمه، وأن نجتهد بقدر طاقتنا في مصاحبة القرآن، هاته المصاحبة التي لا أجرؤ أن أسميها تفسيرا، وإنما هي عشرة للقرآن وصحبة للقرآن. والحمد لله رب العالمين.
جزاكم الله خيرا ونفع بكم