في هذا السياق نورد بعض التعابير التي وردت فيها كلمة “المقاربة” في هذا المصدر أو ذاك مما نرى أنه استعمال خاطئ لا يحترم الوظيفة الدلالية لكلمة المقاربة مجردة “قرب” أو مزيدة (م+ق+ا+ر+ب) مع الإشارة العامة إلى نوع المصدر دون توثيق الإحالة عليه، لأن قصدنا هو التنبيه على الخطأ لأجل معالجته لا التشهير بالآخرين. وهذه التعابير كما يلي :
1- مقاربة النوع والتنمية : وهذا نوع لكتاب يقول مؤلفه في إحدى صفحاته : “الغاية من هذا الكتاب بيداغوجية توضيحية تروم مقاربة النوع للجمهور العريض…”
2- مضى عهد الإرهاب مع الرئيس… أما الرئيس أوباما (ف) له مقاربات جديدة.. نشرة إذاعية.
3- >دعوة الدولة للتخلي عن المقاربة الأمنية مع الأطر المعطلة.. وأوضح المصدر ذاته أن المشاريع المقترحة ينبغي أن تتمحور حول تعزيز قدرات الفاعلين المحليين والنهوض بحقوق الإنسان والمواطنة وكذا مقاربات التنمية…”<جريدة محترمة
4- “… فأما أن تهدد العمال فليكن في علمك أن عليهم (مسؤولان)… وعن العمال بالصحراء فهم ضحية مقارباتك الأمنية حين كنت في الداخلية…” جريدة محترمة
إلى غير هذا من التعابير التي تستعمل كلمة المقاربة. وقد حاولت بفهمي البسيط، أن أحدد دلالات هذه الكلمة في العبارات أعلاه وفق ما تقتضيه قواعد اللغة العربية المتعلقة بالمادة الأصل لهذه الكلمة (ق ـ رـ ب) وما يتفرع عنها بعد الزيادة على الأصل، لتصير (مُ – قَ – ا – ر-ب) على وزن مفاعلة، واستحضرت دلالة الكلمة (مقاربة) في سياق تصنيف بعض الأفعال في اللغة العربية وفق وظائفها الدلالية : أفعال المقاربة فعلت كل هذا ولم أفلح في التوصل إلى دلالة مضبوطة لكلمة (المقاربة) في العبارات أعلاه! وعليه يبدو أن الأمر فيهذه الحلقة أعظم من أن يتعلق بتصحيح خطأ نطق بكلمة، وإنما يتعلق بتنبيه حكماء الأمة إلى ما يتهددها من أخطار بخصوص الإعراض عن مقوماتها الحضارية، التي من جملتها اللغة، فالأمة التي تفقد لغتها تفقد كرامتها، فلا دين، ولا تاريخ ولا تقاليد، ولا قيم بدون لغة، لأن اللغة محضن المفاهيم والقيم. وإذا صح ما سنسوقه من البراهين والحجج على تحريف دلالة الكلمة التي نحن بصدد مناقشتها -ومثيلاتها كثيرة- فإن الأمر ينبئ بالخطر بخصوص وضعية اللغة العربية بين أبنائها، ولعل الحكمة الأمازيغية التي تقول : “إِدَّادْ أُيَ، سَلَّنْ” أحسن مثال يحسم الخطر الزاحف على مقومات الأمة الحضارية، وهذه الحكمة وراءها حكاية تفسرها، وبها أي بهذه الحكاية تتضح الصورة أكثر. ذلك أن شخصا ما أصيب بداء (القَرَع) وهو من قِرع بكسر الراء. إذ يقال : قَرِع فلان : أصابه القَرَع فهو أقرع…” لسان العرب 2/728. ومعلومأن هذا الداء يحدث قروحا في رأس المصاب به، ومع القروح التهاب يستوجب الحك بلطف وبما أنه داء خبيث، فإن المصاب به يغطي رأسه بطاقية، ويحك رأسه باختلاس حتى لا ينتبه إليه عامة الناس ممن لا يعرفونه، لكن المرض استفحل، وعم رأس المريض كله، بل صار يقترب من حاجبيه، وهنا افتضح أمر المريض، لأن المرض يراه الخاصة والعامة، ولذا صار يحك قروحه دون أن يتحاشى نظرات الناس إليه، وهنا جاءت الحكمة أعلاه “إِدَّادْ أُيَ سَلَّنْ” ذلك أن أحد أصدقاء المريض نبهه بأنه بدأ يحك قروحه دون أن ينتبه إلى عامة الناس الذين لا يعرفون أنه مريض بهذا الداء، فأجابه بهذه الحكمة التي تعني “هيهات الحذر لقد صار هذا الأمر يقترب من العينين”.
يبدو أن الخطر بالنسبة لأمتنا بخصوص هذا المقوم الحضاري الأساس (اللغة) صار يقترب من العينين بمعنى أنه قد يصل إلى درجة من الخطر يصعب معها العلاج أو يستحيل، وكل ذي بصر وبصيرة يعرف جيدا وظيفة الإبصار بالنسبة للكائنات المبصرة بصفة عامة، والإنسان بصفة خاصة، ولذا تكون لهذه الحكمة التي سقناها لتوضيح الخطر الذي يتهدد اللغة العربية على يد أبنائها.
دلالتها : ذلك أن الأمة في طريق فقد بصرها وبصيرتها من هذه الناحيةَ! ويمكن إبراز حجم الخطأ في استعمالات هذه الكلمة بالشكل المشار إليه، بالاحتكام إلى مجموعة من القواعد الضابطة لدلالتها الأصلية والفرعية، وهذه القواعد كما يلي :
1- دلالة الكلمة الأصل (ق ر ب) بفروعها مجردة أي دون زيادة أي حرف على حروفها الأصلية الثلاثة (ق ر ب). وقلنا فروعها، أي فروع الدلالة الأصلية، لأن حرف الراء يحتمل الحركات الثلاث الفتحة، والكسرة، والضمة، ولكل شكل معناه الخاص. ثم فروع الفروع، ونعني بها المصادر الناتجة عن كل شكل من الكلمة حسب ضبط وسطها الذي هو حرف الراء، ثم ما ورد منها أي من هذه الأصول أو الفروع في القرآن الكريمولماذا؟! (معجم)
2- دلالة الكلمة (ق ـ رـ ب) مزيدة بحرفين هما الميم (م) والألف (ا) لتصير (م ـ ق ـ ا ـ ر ـ ب ـ ة) ولم يتم التنصيص على التاء في آخر الكلمة لأنها للتأنيث فقط. (تصريف)
3- دلالة مفهوم (المقاربة) في سياق تصنيف بعض الأفعال في اللغة العربية وفق وظائفها الدلالية (أفعال المقاربة) (نحو)
4- عرض الاستعمالات السابقة وما يشبهها على قاعدة التضمين
5- مناقشة أصل الخطأ في مثل هذه النوع من الاستعمالات بقدر الإمكان وكيف ينبغي تجاوزه.
بعد هذا المدخل العام الذي هو بمثابة نداء سنعالج الموضوع في الحلقات المقبلة انطلاقا من النقط المسطرة أعلاه بتتابع إن شاء الله تعالى.
د. الحسين كنوان
-يتبع-