شهدت السياسة الفرنسية تاريخيا؛ تغيرا نوعيا نحو الغرب مع قدوم شارل ديغول للحكم وتأسيسه الجمهورية الخامسة في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1958، وبدأ التغير على استحياء، وتزايد في معدله مع مضي السنين وإن بقي التعاون الكامن قائما بين فرنسا و(إسرائيل)، فديغول نفسه كان متحمسا ل(إسرائيل) وسخيا معها بما في ذلك الدعم العسكري خاصة فيما يتعلق بسلاح الجو.
ومع هذا التوجه الديغولي تراجع النفوذ الفرنسي في العالم العربي، ففي عام 1958.
فقدت فرنسا مواقعها في العالم العربي وانقطعت علاقاتها مع الجميع فيما عدا لبنان، وتراجع نفوذها الثقافي بوضوح وهو أحد أهم اسلحتها المشرعة في بسط نفوذها السياسي، وظهر جليا الانحسار الثقافي الفرنسي خاصة في مصر وسوريا، وساعدت حرب الجزائر على تردي صورة فرنسا في أذهان العرب، وانشغلت مصر بمهاجمة فرنسا باستخدام نتائج فشلها في تحقيق أهداف عدوان عام 1956، فسعى ديغول وسط هذه الأجواء إلى إعطاء انطباع عن “فرنسا جديدة” في نظر العرب بالسعي إلى تحقيق الاستقلال للجزائر التي خاضت حربا تحريرية شرسة، واستمرت مساعيه على مدى أربع سنوات انتهت باستقلال الجزائر عام 1962.
كما ركز ديغول في الداخل أمام الرأي العام على فكرة فرنسا صاحبة “السياسة الرفيعة” القائمة على المصالح الوطنية، والابتعاد عن صراع القطبين الأمريكي والسوفياتي بالبحث عن موقع متميز لفرنسا عن كليهما.
بدأت فرنسا الديغولية تنتهج “سياسة عربية” تقوم على تحقيق مصالحها الوطنية حتى لو أدى ذلك إلى الابتعاد قليلا عن (إسرائيل) الحليفة التقليدية، وتمكنت باريس من اكتساب موقع متقدم لدى الساسة والشارع العربي في أعقاب اندلاع حرب عام 1967 التي تعرض فيها العرب لهزيمة قاسية، وأثبت ديغول أنه لا يتبع السياسة الأمريكية فيصراع الشرق الأوسط حين حظر تصدير السلاح على (إسرائيل) التي بدأت بالحرب، وكان قد أعلن قبل الحرب أنه سيحظر تصدير السلاح على من يبادر بالعدوان. ورغم ذلك لم يحدث أن طبق ديغول الحظر كليا على (إسرائيل) رغم ما جناه من مكاسب اقتصادية وسياسية لدى العرب تحت وطأة الحظر الشامل.
وقد ساعدت رغبة حقيقية من كل من شارل ديغول وخلفه جورج بومبيدو؛ على إبقاء العلاقات الفرنسية ـ الإسرائيلية قوية، يضاف إلى ذلك أن صناع الرأي العام لم يتغيروا فيما بين عامي 1956 و 1967. ورغم أن البعض داخل فرنسا بدأ يكتشف واقع الشعب الفلسطيني، فإن الدعاية الإسرائيلية استمرت على حالها موجهة للرؤية العقدية الفرنسية في هذا الصدد، ولعبت الجالية اليهودية دورا فاصلا في إقناع الفرنسيين بالرؤية الصهيونية.
اسـتـقــلال الجــزائـــر
كان على فرنسا الديغولية الانتظار إلى ما بعد استقلال الجزائر حتى تستهل إعادة توجيه سياستها العربية مع التخلص من هذا العائق، ولم تلحظ تل أبيب حجم التحول القادم أو إشاراته لفرط ثقتها في الحلف غير المعلن القائم مع باريس، بل إن أغلب رموز الحركة الديغولية في ظل الجمهورية الرابعة (1944-1958) كانوا من أنصار (إسرائيل)، ومن هؤلاء الديغوليين التاريخيين بيير كوينغ، وجاك سوتيل، إدمون ميشيلي، وجاك شابان دلماس، وميشيل دوبريه، وروجيه فري، وديوميد كاترو، والأكثر من ذلك أنهم من المساهمين في دعم المشروع الصهيوني فيما بين عامي 1948و 1956.
على الصعيد نفسه يذكر أن ديغول كان يكن مودة خاصة تجاه سوريا ولبنان بحنينه إلى الإمبراطورية الفرنسية والخبرة الشخصية، فقد ذهب إلى سويا محاربا ضمن الحملة التي اتخذت “سوريا” اسما لها وضمن جيش “ليفان”. وفي الوقت نفسه عرف عنه انتقادات لاذعة للعرب، وفي تلك الأثناء أفسدت حرب الجزائر علاقات فرنسا مع مصر عندما أعلن جمال عبد الناصر وقوف بلاده مع الجزائريين في حربهم التحريرية وكثف من دعمه السياسي والعسكري لهم.
ولم تتعارض جهود ديغول لإصلاح العلاقات العربية ـ الفرنسية مع ذلك الحلف غير المعلن مع (إسرائيل)، وكذلك في الحكومة التالية التي رأسها ميشيل دوبريه. وبدا ديغول حازما في تعهدات فرنسا تجاه (إسرائيل). فقد أبدى السفير الفرنسي لدى تل أبيب بيير إيوجين جيلبير بعد أيام من قدومه إلى مقر الحكومة “الماتينيو”؛ إعجابه ب(إسرائيل) وتعهد بدعمها لو تعرضت أراضيها وبقاؤها للخطر. وعند عودته إلى تل أبيب قال إنه من الآن “صديق أقوى كثيرا (من ذي قبل) وأكثر دعما مما مضى”.
ووفقا لأندريه بلوميل فإن ديغول ذكر في إحدى اجتماعات مجلس الوزراء أنه لا يتعهد إلا بنقطة واحدة من السياسة الخارجية التي أتبعتها الحكومات السابقة هي “تلك المتعلقة بإسرائيل”. وكان جي موليه أحد رموز هذه السياسة واضحا ـ بهذا الصددـ معلنا أثناء زيارة تل أبيب في مايو 1959 أثناء محادثاته أن ديغول حمله مسؤولية إبلاغ الإسرائيليين استمرار السياسة الفرنسية المتبعة منذ عام 1956. وهي أن (إسرائيل) تستطيع أن تعتمد على فرنسا لو تعرض وجودها أو حريتها للتهديد. وعند استقبال ديغول لجولدا مائير في الخامس من أغسطس 1958 أكد لها أنه لم يكن ليسمح بوقوع أحداث بعينها بعد عام 1956 لو كان في السلطة آنئذ، وذهب ديغول لأبعد من ذلك عندما أفصح لمستشاره الدبلوماسي بعد جلسة محادثات مع ماثير بأن “فرنسا لا تستطيع إلا أن تعطس إذا أصيبت إسرائيل بالبرد”.
ظلت استمرارية العلاقات والتعاون عبر الحلف الضمني غير المعلن بين الجانبين، وبقيت هذه الاستمرارية بطيئة أحيانا ومتسارعة أحيانا أخرى، في أهم مجالات التعاون وهو تسليم أسلحة فرنسية إلى إسرائيل) من بينها أربعة أسراب من طائرات “سوبرمستير” في كل سرب ست طائرات، وقد بدأ التفاوض على هذه الصفقة معقرب نهاية “الجمهورية الخامسة، واستعرض سلاح الجو الإسرائيلي أولى هذه الطائرات في العيد الوطني في مايو 1959. وفيما يتعلق بصفقة طائرات “الميراج 3 س” التي كانت موضوعا لاتفاق مبادئ بعد عودة ديغول للحكم عام 1958؛ فقد اتخذت مسارا أطول مع معارضة وزير الخارجية كوف دو مورفي الذي استمر في منصبه لمدة عشر سنوات حتى عام 1968، وفي النهاية بدأ تنفيذ الاتفاق عام 1961.
فرنسا والبرنامج النووي الإسرائيلي
في مجال امتلاك الطاقة النووية وأسرارها كانت فرنسا أول من أمد (إسرائيل) بهذه الخبرة النظرية والمفاعل النووي الذي بدأت به حلة انتهت إلى تصنيع القنبلة النووية. وقد شهد الرئيس السابق للجنة الطاقة الذرية الفرنسية فرانسيس بين بأن بلاده عندما ساعدت (إسرائيل) على إقامة مفاعل “ديمونة” أقامت أيضا معملا لاستخلاص البوتونيوم. وإذا كان شمعون بيريز هو الأب الحقيقي للقنبلة النووية الإسرائيلية، فإن فرنسا هي الدولة الأم لهذا المشروع. فقد تفاوض بيريز بحكم منصبه كمدير عام لوزارة الدفاع في الخمسينيات سرا لشراء مفاعل نووي من فرنسا، ونجح في إكمال بنائه في ديمونة.
وقد سمح الفرنسيون للعلماء الإسرائيليين بالمجئ إلى “ساكلاي” حيث مركز الأبحاث النووية الوطنية الفرنسية الذي أقيم قرب فرساي؛ عند تنفيذ البرنامج النووي الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، واشترك الإسرائيليون في بناء المفاعل النووي الاختباري الصغير في “ساكلاي”، وكان ذلك اختباراً تثقيفيا للعلماء الإسرائيليين؛ مما مكنهم من نقل التقنية النووية إلى (بلدهم). وشهد عام 1951 تحولا مهما في التجارب النووية الفرنسية التي أتاحت للإسرائيليين الاستفادة من تجربة بناء مفاعل نووي يستخدم وقودا من اليورانيوم الطبيعي. وتعد فرنسا ـ وليست الولايات المتحدة ـ الطرف الرئيسي الذي أخذ بيد (إسرائيل) في سعيها للحصول على القنبلة الذرية.
وعلى مدار أربعة عشر عاما بين عامي 1953 و 1967 تواصل التعاون الفعلي والواسع بين الجانبين، فقد تعاونت فرنسا في البدء في ظل حكومة جي موليه، ثم في عهد شارل ديغول، بصورة أساسية في مجالات الأسلحة التقليدية والتقنية النووية.
هناك ثلاث عوامل تقف وراء القرار الفرنسي الداعم نوويا ل(إسرائيل)؛ أولا : حرب الجزائر وإمكان قيام (إسرائيل) النووية بإرهاب الرئيس المصري جمال عبد الناصر ليكف عن دعم المجاهدين الجزائريين، ثانيا : رغبة فرنسا في تصنيع قنبلتها النووية بعيدا عن المظلة الأمريكية، فقدمت ل (إسرائيل) المساعدة التقنية في ميدان إنتاج “الماء الثقيل” وحصلت منها في المقابل على تقنية الحاسوب الأمريكي الذي حظرت واشنطن بعض أنواعه على باريس خشية استخدامها في تصنيع القنبلة النووية، وثالثا : ربما اعتبرت فرنسا التعاون مع (إسرائيل) نوويا بمثابة سند تأمين ضد فشل التجارب قبل أن تقدم على إنجاز تفجيرها النووي الأول عام 1960، لهذا رحبت بإسهام العلماء الإسرائيليين في برامجها العسكرية.
وفي التاسع من مارس الماضي قام وزير الدفاع الفرنسي فانسوا ليوتار بزيارة ل(إسرائيل) هي الأولى من نوعها منذ أنشئت إسرائيل عام 1948، ووقع اتفاقية للتعاون في مجال الأبحاث العسكرية وتطوير الصواريخ الحاملة للأقمار الصناعية، وقال في هذه المناسبة : إن الزيارة تهدف إلى تجديد وتطوير العلاقات الثنائية، مؤكدا أنها تنهي قطيعة عسكرية استمرت 27 عاما (من الناحية الرسمية). ولم يفته التنويه إلى أنه شخصيا صديق ل(إسرائيل). وبعد ليوتار -مثل زميله وزير الخارجية الان جوبيه- من أصدقاء (إسرائيل) في ردهات السياسة الفرنسية، ويعرف عنه شغفه بإسرائيل التي زارها 12 مرة. ويكشف أرشيفه السياسي انتقادات حادة لسوريا نتيجة وجود قواتها في لبنان، مع نوع من غض الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي.
تستند الرؤية السابقة إلى تراث فرنسي يعود إلى الفكر الديغولي الذي تنتمي إليه شريحة غالبة في أوساط اليمين الحاكم اليوم، وفي وقت من الأوقات ركز بعض رموز اليمين الإسرائيلي -مثل بيغن- ومن اليسار على دعاية انتخابية تستلهم شعار الحلف الإسرائيلي – الغربي لتدعيم مواقعها في أوساط الناخبين، وبرزت في هذا الإطار فكرة حلف مع فرنسا، وتعمقت الفكرة في الوقت ذاته لدى بن غوربون مع بداية عام 1959.
وأعطى لسفيره لدى باريس جاكوب تسور تعليمات في هذا الاتجاه. ودرس كل من تسور ومن بعده جولدا مائير الفكرة مع دوبريه، وبشكل غير مباشر مع ديغول الذي أجاب بالسلب، وأفهم الرئيس الفرنسي الإسرائيليين أنه لا حاجة لحلف رسمي بين الجانبين. وفي أكتوبر 1959 ذكر روجيه فري في نشرة الجمعية الفرنسية ـ الإسرائيلية أن “المعنى الحقيقي لكلمة الحلف الجميلة التي قدمت إلينا من إسرائيل” لم يكن معاهدة أو اتفاقا أو تبادل توقيعات، لكنها مجموعة حية تتجاوز الحدث السياسي أو الدبلوماسي”.
وقد سقطت فكرة الحلف لا حقا في بحر النسيان، وأصبح على وزراء ديغول قطع صلاتهم مع الجمعية، وفي نونبر من العام نفسه طلب دوبريه من أحد المسؤولين عن الجمعية أن يعتبره “في إجازة” منها، وكان في ذلك مؤشر على التباعد الرسمي بين الديغوليين والتشكيلات ذات الصبغة الإسرائيلية.
إعداد: عبد المنعم السيد – باريس