إن اهتمام الإسلام بعنصر الأرض هو في نفس الوقت اهتمام بما تتضمنه هذه الأرض من عناصر بيئية أخرى فيها، إذ مجموع تلك العناصر لا يخرج عن عنصر الأرض الذي بوجوده يقوم وبزواله يزول، من تلكم العناصر :
- الماء : وقد اهتم به الشارع اهتماما بالغا وجعله أصل الحياة {وجعلنا من الماء كل شيء حي}(الأنبياء :30) {والله خلق كل دابة من ماء}(النور : 45) {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا}(الفرقان : 54) واهتم بأركانه أيمّا اهتمام وجعل صلاحه وفساده بما يدور حوله أركانه من صلاح وفساد وقوّم به أمور العبادات فإذا تغير أحد أركانه الثلاثة (اللون، الطعم، الرائحة) لم تصح به العبادة وخرج عن صلاحه.
وقد ورد ذكر الماء في كتاب الله ما يقارب 63 مرة وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى حرص الإسلام على المحافظة عليه وتوجيه النصوص لتلك الغاية السامية فنهى عن أن يبول الإنسان في الماء أو يتغوط فيه سواء كان جاريا أو راكدا، فعن جابر أن رسول الله نهى أن يبال في الماء الراكد( أخرجه مسلم) ونهى عن التنفس في الإناء >إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء<(أخرجه البخاري) وقد نهى رسول الله عن الإسراف في استعمال الماء ولو كان الإنسان يزاول أمرا تعبديا فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله مر بسعد وهو يتوضأ فقال >ما هذا السرف< فقال أفي الوضوء إسراف، قال >نعم وإن كنت على نهر جار<(أخرجه ابن ماجه) وقد بوب أبو داود في سننه بقوله (باب ما جاء في كراهية الإسراف في الوضوء بالماء) والبيهقي بقوله (باب النهي عن الإسراف في الوضوء) لذلك فالمحافظة على الماء ضرورة إسلامية ملحة.
- الهواء : يعتبر الهواء من أشرف عناصر البيئة وذلك لكونه مرتبطا بأشرف أعضاء الجسد وهو القلب، وقد عرفه القدماء بأنه “جسم رقيق متى تموج من المشرق إلى المغرب سمي ريح الصبا وهي الريح التي نصر بها الرسول حيث قال >نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور<(أخرجه البخاري) والعرب تحب الصبا لرقتها ولأنها تجيء بالسحاب والمطر”.
وقد أولاه الإسلام عناية بالغة وجعله أمرا لابد منه في استقرار الحياة وجريانها ومساعدا رئيسيا في اكتمال التزاوج والتكامل في الطبيعة يقول تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح}( الحجر : 22) وقد جعل الله سبحانه الهواء النقي من ميزات الجنة فهواؤها ليس بحار ولا ببارد وإنما وسط بين الصفتين قال تعالى {متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا}( الإنسان : 13) أي لا يرون فيها حرا كحر الشمس ولا بردا كالزمهرير قال ابن كثير (أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هو مزاج واحد دائم سرمدي لا يبغون عنها حولا)(1) وقد روي عن النبي قوله >إن هواء الجنة سجسج لا حر ولا برد<(2) والسجسج الظل الممتد كما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وقد ورد عن النبي أنه كان يكره أن يبول الرجل في الهواء(3). وقد كان لعلمائنا السبق في دراسة علم الريافة والتأليف فيه وهو علم يتضمن كيفية استخراج الهواء الفاسد من الآبار حتى يتجنب التلوث الذي يمكن أن يلحق الهواء ويؤدي بالتالي إلى موت الإنسان ونهايته، وقد ورد في كتاب “الفلاحة” لابن وحشية كيفية اختبار هواء البئر لمعرفة ما إذا كان صالحا أو فاسدا وكيفية استخراج الهواء الفاسد منه، فقال (على الذي يهبط إلى البئر التي يتصاعد منها بخار ردئ أن يشعل شمعة قبل أن يهبط ويدليها في البئر فإن انطفأت فعليه أن يعمد إلى سراج فيشعله ويدليه وليكن بدون زيت بل بشحم فإن انطفأ فالبئر ردئ ويجب الإقفال والإهمال، ولإخراج الهواء الفاسد من البئر يجب أن يقام بأعمال منها :
1- مراوح كبيرة من الخوص أو غصون من النخل تحرك بقوة داخل البئر.
2- كتل من الصوف تدلى وترفع ليخرج منها بخار البئر.
3- صب ماء فيالبئر دفعة واحدة والترويح بالمراوح فإن ذلك يحرك ويخرج.
4- تنزل إلى البئر حزمات من القصب مربوط بحبال يمسك بكل حزمة رجل ثم يأخذون في التحرك إلى أعلى فأسفل.
5- تنزل مجمرة فتصعد وتهبط وعليها خيار مجفف وقرع وبطيخ)(4).
كل هذا العمل من علمائنا المسلمين لكي يحفظوا خاصية الهواء، حتى أن بعضا منهم كان يقول أن تلوث الهواء علامة من علامات الساعة وما تلوث الهواء في زمن قوم إلا كان ندير سوء لهم وفسرها بقوله تعالى {يوم تاتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب اليم}( الدخان : 10- 11
) وقد أورد فيه ابن قتيبة قولين (الأول : أنه في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان، الثاني : أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان)(5) كل هذا الحذر فيوقتهم رحمهم الله، أما لو أدرك ابن قتيبة وابن وحشية زماننا لكانوا اعتزلوا الحياة خوفا من قيام الساعة فهي لن تقوم إلا على شرار الناس، فإن الدخان المتصاعد فقط من السجائر التي يدخنها الناس كفيل بأن يقضي على قدر كبير من الأكسجين النقي فما بالك بعوادم السيارات والمصانع والمحطات والقطارات.
وأخيرا فلا يتبادر إلى ذهن أي أحد من أصحاب الألباب أن الإسلام بما حفل به من أوامر وتوجيهات وتوصيات وشرائع لم يسمح بأي صورة من الصور أن تبقى الأرض خربة يهلك فيها الحرث والنسل وعمل المسلم دليل على مقدار قربه من الدين وبعده عنه، فإن كانت شوارعه مكدسة بالأزبال والأوساخ ومستشفياته بالأوبئة والأمراض فذلك راجع إلى تخليه عن دينه وعدم التزامه بأوامر ربه ورسوله وعليه في ذلك كامل المسؤلية إن عمل خيرا وأصلح في الأرض جزي خيرا في الدنيا والآخرة وإن عمل شرا وأفسد في الأرض أخذ بعقاب في الدنيا والآخرة ولن يحمل الإسلام إثم فاطمة إن أظهرت ظفيرتها.
ذ. امحمد رحماني
——
1- تفسير ابن كثير 8/220.
2- ذكره القرطبي في تفسيره ورواه ابن أبي شيبة.
3- أخرجه البيهقي حديث 483 وفي إسناده متروك وقال أبو محمد هو موضوع.
4- العقل العلمي في الإسلام لعلي شلق ص : 222.
5- فتح البيان لصديق حسن خان 8/446.