دين المؤمن يفرض عليه طرحَ المحرمات و الخبائث وهجرها، والفرارَ منها حتى لا يتجرع غُصَصَها ومراراتها، وحتى لا يتحمل تبعاتها في الدنيا والآخرة، ولِيَسْلَم له دينه ويصفوَ له العيش، وتطيبَ له الحياة في هذا العالم الموبوء بوباء الحرام والآثام.
والمسلم يرى الحلال نورا لا غبش فيه، والحرام ظلاما لا نور معه، وإذا أسقطته نفسه في الحرام، أو أغواه شيطانه، فسرعان ما يتوب منه و يتخلص من خبثه، ويُطَهِّر منه نفسه ظاهرا وباطنا وطعامَه وشرابه، و يبَصِّر أهله وذريته وأقاربه وأفراد مجتمعه بعواقب الاقترابِ منه والحَوَمانِ حوله.
إن المسلم الحريص على سلامة آخرته، والذي يريد الربحَ في تجارته مع الله، والفوزَ في مآله، وسلامة أمواله من التلف، ونيل ما عند الله من الفضل الدائم والنعيم المقيم، يفقه مراتب الحلال والحرام، وهو يدرك أن بعض الحرام أشد من بعض، ولا يقترب من منطقة الشبهات المتحركة بين الحلال والحرام، ويمسكه ورَعه عن المحرمات والمكروهات، حتى إنه يَتوب إلى الله من المباحات، وذلك لأنه يخاف الله أولا وأخيرا، ولأنه يعلم أنه مُرَاقَب، محاسب، مسئول عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وهو يطهر أمواله من الحرام، ويجتنب ما يوصل إليه من وسائل ومقدمات وممهدات، ولا يتعامل إلا بالطرق الحلال المشروعة، ولا يلتفت إلى الأموال المشبوهة المحرمة وإن كانت كثيرة مُغرية، حتى لا تورثه الخزي والندامة، وقبل أن يَقْدِم على كسب المال أو إنفاقه يتبَصَّر ويسترشد بنصوص القرآن الكريم التي منها قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم}(النساء : 29)، فيقف عندها ولا يتخطاها، ويعمل بتوجيهات الرسول ، وآراء العلماء الناصحين الثِّـقـَات الربانيين، فهو عفيف شريف نظيف، ينقي ماله من كل شائبة، ويستعمله في ما ينفع نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، وفي مشاريع الخير والنماء، وفي سبيل الله والمستضعفين.
وهو يهجر الحرام وأهله ويتحكم في هوى نفسه، ويلزمها طريق الحق، ويلجمها بلجام الكف والمنع والقمع، ويلبِسها لباس التقوى والورع، و يتحرى الحلال في مأكله ومشربه ولباسه وبيعه ومعاملاته، بل في كل أموره، ولا ينخدع بإغواء الشيطان، يقنع باليسير ولا يتطلع إلى المال الكثير، لأنه يعلم أن ما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى وأطغى، ولأن رسول الهدى دلَّه على سبل الفلاح حينما قال : >قد أفلَحَ مَن أسلم ورزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه<(1).
ولا يغترَّ بأموال الأغنياء أهل الحرام والآثام، وإن كثرت أموالهم وتعددت ممتلكاتهم، لأن الله تعالى وصف متاعهم بأنه { متاع قليل ثم مأواهم جهنم، وبيس المهاد }(النساء : 197)، وقد قال الله تعالى عنهم : {أيحسبون أنما نُمِدُّهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات، بل لا يشعرون}(المؤمنون : 57)، وقال لرسوله ناهيا له عن الإعجاب بأموالهم : {فلا تعجِبْك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}(التوبة : 55)، وقال الله عز وجل يتوعدهم : {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون}(الحجر : 3).
والمسلم الصادق لا يأكل أموال إخوانه المسلمين وغيرهم بغير طيب أنفسهم، لأنَّ نصوص الدّين وأخوة الإنسانية تجعله يحترم أموالهم وأعراضهم ودماءهم، قال النبي الكريم : >كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه<(2).
وهو يزهد في كثير من الحلال، ولا يجترئ على ما يَشُكّ فيه استبراء لدينه وعرضه خشية السقوط في السحت، فعن عطية السعدي قال: قال الرسول الهادي : >لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس<(3)، ويقول الحسن البصري قدوة الزهاد ] : “مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام”، وكان أحد الصالحين يقول: كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام.
فعلى آكل الحرام ومُطعمِه لأهله أن ينظر ماذا يجعل في بطنه و بطن أهله؟ ويرفِق بنفسه ويتدارك أمره، ويراجع حسابه! ويعلم أن أكلَ التراب خير له من أكل الحرام، قال : >لأن يأخذ- أحدكم – ترابا فيجعله في فيه، خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله>(4).
والبطن الخاوية الجائعة الضارعة، أفضل عند الله من بطن محشوة بالحرام، ناسيةٍ لله وللقائه وحسابه، ورُبَّ جوع أوْرَث ذلا لله، وخشية وضراعة ورضى، خير من شِبع أورث طغيانا وفجورا وشرورا ونارا وسعيرا، ورحم الله امرأة مؤمنة كانت توصي زوجها كلما خرج من بيته يبحث عن قوت أهله قائلة له : “اتق الله فينا ولا تأتينا بحرام، فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار”.
فيا من تجمع المال من كل طريق! اعلم أنك ستموت وتترك كل ما جمعته خلفك يتمتع به غيرك وربما يكون زادا لك إلى النار! إياك والحرام، فما الفائدة من مال تشقى في جمعه، ويكون وبالا عليك، ويتمتع به غيرك؟ فيسلَموا وتُعَذَّب أنت، انتبه انتبه!.
ويا مَن تحدثه نفسه بأكل أموال الناس بالباطلِ وطرُق المكر والاحتيال، ويريد منه شيطانه أن يبيع دينَه بحفنةٍ منَ المال، تذكَّر يوم العرضِ والأهوال، تذكَّر يوم الوقوفِ بين يدي الكبير المتعال، تذكَّرْ يومَ لا تنفع كثرة الأموال، تذكَّر يوم تصفَّد بالسلاسلِ والأغلال، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة يقال: هذه غدرةُ فلان.
ذ. أحمد المتوكل
———-
1- أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو
2- رواه مسلم عن أبي هريرة كتاب البر والصلة والآداب
3- أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم
4- رواه أحمد عن أبي هريرة وقال المنذري إسناده جيد.