الصراع وأمن (إسرائيل) ومصالح واشنطن
أدركت الولايات المتحدة إبان حرب الخليج الثانية (1990-1991) أن أمن (إسرائيل) مهدد، وأنها لن تظل بعيدة عن الأخطار إذا استمرت في تجاهل حل القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث اثبتت صواريخ الـ”سكود” التي كان يطلقها العراق على تل أبيب أن سماء (إسرائيل) مفتوحة لتلقي الضربات العربية ما لم تتحرك باتجاه حل سلمي تراعي فيه مصالح العرب، ومن ثم لعبت الولايات المتحدة الدور الأكبر في إقناع (إسرائيل) بالاشتراك في مؤتمر مدريد عام 1991 تحت رعايتها هي والاتحاد السوفياتي السابق، ومع بروز مسيرة السلام العربية ـ الإسرائيلية لعبت الولايات المتحدة دورا هاما في مسار مفاوضات السلام العربية ـ الإسرائيلية، فقد انفردت الولايات المتحدة بمرحلة الإعداد للمفاوضات التي سبقت مؤتمر مدريد، وذلك عبر ثماني جولات مكوكية لوزير الخارجية جميس بيكر في المنطقة العربية، كما قامت الولايات المتحدة بتهيئة البيئة الدولية والإقليمية لقبول المفاوضات من حيث المبدأ، ولقبول التفاوض وفق الصيغة التي تتبناها الدبلوماسية الأمريكية.
ففي اطار تهيئة البيئة الدولية قامت الولايات المتحدة بعدة خطوات منها:
- الضغط على الاتحاد السوفياتي السابق لرفع كل القيود عن حركة الهجرة اليهودية منه إلى (إسرائيل).
- المساعدة في فتح أبواب علاقات جديدة مهمة لـ(إسرائيل) مع قوى مهمة مثل الصين والهند.
- إمداد (إسرائيل) بصفقة مهمة من الأسلحة فضلا عن الإعلان مجددا عن الالتزام بضمان أمنها وتفوقها النوعي.
وفي إطار تهيئة المناخ الإقليمي لبدء المفاوضات قامت چ بما يلي:
- إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بمساواة الصهيونية بالعنصرية.
- استخدام الضغوط والتهديدات بالتركيز على أن المفاوضات سوف تنعقدبمن يوافق عليها من أطراف دون انتظار موافقة الجميع، وأن الرافضين سوف يخسرون الكثير.
- رفض منح (إسرائيل) ضمانات القروض البالغة عشرة بلايين من الدولارات.
وقد أدت هذه الخطوات إلى إعداد المسرح وتهيئة البيئة الصحية لقبول المفاوضات والمشاركة فيها من جانب كل أطراف الصراع.
وتجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من انفراد الولايات المتحدة بقيادة صناعة أسس المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية وتحديد مرجعيتها، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، فإن الدور الأمريكي القيادي كان يخضع في المراحل اللاحقة من العملية التفاوضية لحدود وقيود ذاتية وموضوعية بسبب الأوضاع الداخلية الأمريكية، ومن ثم فإن الاستراتيجية التفاوضية الأمريكية في مرحلة المفاوضات الثنائية تمثلت في عدم التدخل المباشر باقتراح حلول أو تقديم مبادرات أو توصيات مباشرة تتعلق بمضمون القضايا والمشكلات موضع التفاوض إلا بموافقة كل الأطراف او بطلب منها وكانت الاستراتيجية الأمريكية التي التقت عندها إدارتا جورج بوش وبيل كلينتون هي استراتيجية “ترك الأطراف المعنية لشأنها وحلولها ومقترحاتها وأدواتها وسبلها في التوصل إلى الحل”.
الانـحـيـاز الأمـريـكـي
وقد حرص المسؤولون الإسرائيليون منذ البداية على إيجاد دفاع قوي في مواجهة مساعي المفاوضين العرب لاستحضار الولايات المتحدة إلى قاعات المفاوضات، وقد أصرت (إسرائيل) على عدم الذهاب للجولة الثانية من المفاوضات في واشنطن في الموعد الذي حددته الولايات المتحدة، وكان هذا دليلا على أن (إسرائيل) ترفض أي تدخل أمريكي في المفاوضات حتى ولو كان هذا التدخل بخصوص مسألة إجرائية مثل تحديد موعد جولة من جولات التفاوض، ورأت (إسرائيل) أن التدخل الأمريكي في مسائل إجرائية قد يؤدي إلى تدخلها فيما بعد في مسائل جوهرية، ومن ثم فقد طلبت ضرورة “أن تحدد الولايات المتحدة أولاً وبدقة دورها في المفاوضات “، وقد جاءت الاستجابة الأمريكية لهذا المطلب تأكيداً على “مبدأ عدم التدخل وفرض الحلول ” (1).
وقد جاء هذا الحرص الإسرائيلي إدراكاً من (إسرائيل) بأنها سوف تكون صاحبة أكبر مكاسب من العملية التفاوضية برمتها لأن الثقل التفاوضي يميل لصالحها، والمعطيات الإقليمية والظرف التاريخي يسير في اتجاه تكريس مصالحها، ومن ثم عملت على تحييد الدور الأمريكي في المفاوضات وعدم الخضوع له يقيناً منها أنها سوف تحصل على “نصيب الأسد” من محصلة التفاوض.
وتدعيماً لهذا التصور فقد تفاوضت (إسرائيل) بشكل سري ـ دون اشتراك الولايات المتحدة ـ مع منظمة التحرير الفلسطينية لمدة ستة أشهر تم فيها عقد 14 جولة مفاوضات سرية في أوسلو، ولم يعلم بها أحد إلا في مراحلها الأخيرة،ولم تعلم الولايات المتحدة بانعقاد هذه المفاوضات السرية واتجاهات البحث فيها إلا اثناء جولة وزير الخارجيةالأمريكي للشرق الأوسط للإعداد للجولة الحادية عشر من مفاوضات واشنطن(2).
وعلى الرغم من تجاوز الدور الأمريكي في مفاوضات أوسلو، فإن الولايات المتحدة سارعت إلى تأييد اتفاق “غزة ـ أريحا”، بل لقد تم توقيع إعلان المبادئ الفلسطيني ـ الإسرائيلي في البيت الأبيض الأمريكي وبحضور كلينتون في 13 سبتمبر 1993.
كما شجعت الولايات المتحدة الأطراف العربية الأخرى على الاستمرار في التفاوض مع (إسرائيل) بشكل ثنائي بعد أن غاب التنسيق العربي الذي كان يتم من حين لآخر في اجتماعات وزراء خارجية دول الطوق، وظهر ذلك جليا في تشجيع الأردن على المضي قدماً، في التفاوض مع (إسرائيل) بل لقد حرص الرئيس الأمريكي كلينتون شخصيا على حضور حفل توقيع معاهدة السلام الأردنية، الإسرائيلية، على الحدود بين البلدين في وادي عربة في تشرين الأول / اكتوبر 1994.
وحرصت الولايات المتحدة على دفع المسارين السوري واللبناني حتى تستكمل حلقات السلام في المنطقة، وفي هذا الاطار عقد الرئيس الأمريكي لقاءي قمة مع الرئيس السوري حافظ الأسد؛ الأول بجنيف في 16 كانون الثاني / يناير 1994، والثاني بدمشق في تشرين الثاني /أكتوبر 1994، ولعل عقد هاتين القمتين دليل مهم على أن الولايات المتحدة تلعب دوراً مهماً في عملية السلام في الشرق الأوسط، ولكنه لا ينفي أن هذا الدور الأمريكي يتوقف على المعطيات الموضوعية والاستراتيجية الأمريكية في هذا الصدد.
على أية حال فإن الولايات المتحدة تصر على أن تصبح القوة الرئيسية والوحيدة صاحبة الكلمة في منطقة الشرق الأوسط، نظراً لكونها اصبحت القوة الأولى في النظام العالمي الجديد، ومن ثم فإنها تصر على التواجد في المنطقة، ولعل هذا يتجلى في حرصها على حضور المؤتمر الدولي الثالث للسكان والتنمية بالقاهرة من خلال وفد رفيع المستوى برئاسة نائب الرئيس الأمريكي آل جور، وكذلك الحرص على حضور مؤتمر القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي عقدت بالدار البيضاء بالمغرب وقمة شرم الشيخ الأمني.
هذا الحرص على التغلغل في المنطقة سياسياً واقتصاديا واجتماعيا لا يمكن أن يفسر إلا في ضوء رغبة الولايات المتحدة في التواجد في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الحيوية من ناحية، والحرص على دعم الموقف الإسرائيلي حتى يتم تذويبه في إطار دول المنطقة العربية من خلال تسوية المشروعات الشرق أوسطية من ناحية أخرى.
—-
1- انظر د.وحيد عبد المجيد، مفاوضات السلام ومشكلة الأداء التفاوضي العربي، مجلة السياسة الدولية، الأهرام، القاهرة، عدد 108 أبريل 1992، ص 185.
2- انظر د. مصطفى علوي : البيئة الدولية للمفاوضات، مرجع سابق، ص 84.