يطرح حديث السفينة أيضا إشكالية من أشد الإشكاليات خطورة وحساسية في الحياة الإنسانية، وكمونها وراء قدر هائل مما عرفته من زلازل وهزات، على مستوى العلاقات بين شرائح المجتمع ومكوناته. ولاتزال هذه المشكلة تلقي بظلالها على أمم الأرض قاطبة، بسبب عدم الانطلاق في التعامل معها من موقف رشيد يستمد قوامه من التصور الحق للمسألة، إنها مسألة الملكية، ملكية الأشياء، من حيث تحرير القول في أصلها وطبيعتها، لمن تعود هذه الملكية في نهاية المطاف؟، لشريحة ما أولبعض الشرائح داخل المجتمع، أوهي تعود للمجموع، أم هي على الحقيقة لا لهؤلاء ولا لهؤلاء؟
إن حديث السفينة يوحي بشكل عميق، ومن خلال سياق حواري بديع، وبكلمات قليلة، بالتصور الحق، وبشتى أبعاده البعيدة التأثير، على مستوى الوجود الإنساني عبر عصوره ومراحله. جاء على لسان من كان أسفل السفينة من نصيبهم: >لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا< فإذا كان جواب الشرط في هذه الجملة يتعلق بتبرير الفعل الذي تعلقت به النية والنزوع، فإن جملة الشرط تتضمن زعما بملكية نصيب من السفينة، هوأسفلها، وهوزعم لا يسلم لهم، خاصة في هذا المقام الحساس، وفي سياق الظرف النفسي والعلائقي الذي تمر به السفينة، الموسوم بالاختلال، بسبب ضبابية الرؤية ومحدودية الأفق الفكري لدى ركاب السفينة بكلتا موقعيهم: الأعلى والأسفل، على تفاوت في جسامة الخطر الناجم عن موقف كل منهما في حق السفينة التي تحمل الجميع.
إن الظرف الحرج الذي وجدت فيه السفينة عندما هم الذين هم في أسفلها بجعل خرق في ما سموه نصيبهم، يكشف لأولي الألباب حقيقة الأمر في الملكية المزعومة من هؤلاء، وهي أنها ملكية على سبيل المجاز لا الحقيقة، لأن الملكية على الحقيقة لمجموع السفينة إنما هي لمجموع الركاب، ما دامت الملكية العرضية تظل محكومة في امتدادها الزمني والشعوري النسبيين، بمدى استمرار وضعها في حالة السلامة والتوازن، التي لن تتم بدورها إلا بصحة التصور والسلوك تجاه مصلحة السفينة التي تتمثل في نجاتها من كل سوء.
إن القيام على حدود الله على صعيد الجماعة البشرية لن يتم على الوجه الأمثل إلا إذا تضافرت جهود أعضائها من أجل حماية كيانهم من أن تخترقه السهام، أوتقتحمه قوى الشر، لتحويله من حالة النظام إلى حالة الفوضى، ومن حالة الهدوء واستتباب الأمن والاطمئنان، إلى حالة الاضطراب وفقدان الأمان. وصمام الأمان الذي يجسد هذا المطلب العزيز، هوالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن تتم رعاية هذا الركن الأصيل، من أبسط تجلياته إلى أعقدها وأعلاها، انطلاقا من الاقتناع الراسخ بأن معظم النار من مستصغر الشرر، وهوما يوحي به على سبيل المثال قول الرسول في قضية تحريم القليل من الخمر: >ما أسكر كثيره فقليله حرام<(رواه أبوداود).
وإن الذي يتيح سريان روح هذا المبدأ في نفوس الناس، هو اقتناعهم الراسخ بأن المجتمع الذي يكتنفهم ويتحركون في فضاءاته، ويقضون حوائجهم في كنفه، تعود ملكيته للجميع، على اختلاف أقدارهم ومواقعهم، وأن كل واحد منهم له قسطه من المسؤولية في حمايته والذود عن حياضه. أما الاستقالة واللامبالاة وغض الطرف عما يجري، فذلك مما يتنافى مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هوواضح لأولي الأبصار.
وخلاصة الأمر في مسألة الملكية في مفهوم الإسلام، والتي يختزل حديث السفينة معالمها التصورية والتطبيقية في نموذج بديع، أن هذه الملكية تعود للناس مجازا، لأنهم هم الفقراء والله هوالغني، مصداقا لقوله تعالى: {يا أيها الناس أنتـم الفقراء إلى الله والله هوالغني الحميد}(فاطر : 15) وقوله سبحانه: {والله الغني وأنتم الفقراء}(محمد:38). فالذي يملك هذا الكون ومافيه، هوالله جل جلاله، وإذا كانت الأموال أبرز شيء يزعم الإنسان ملكيته، فإن الله سبحانه وتعالى يحسم الأمر فيه بقوله عز وجل: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}(النور : 33) وقوله جلت قدرته : {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه}(الحديد : 7)، فالوضع الأسلم مآلا في معاش الناس وفي أخراهم، عند التعامل مع كل متاع، هوالنظر إلى الملكية المجازية العرضية في ضوء الملكية الحقيقية التي تعود إلى خالق الكون والإنسان ومدبر أمرهما، الله العزيز الحكيم، لأن موقع الإنسان في هذه الحياة، هوموقع استخلاف يتصرف فيه بمقتضى ما يرضي الله عز وجل، من إذعان وتسليم ومسارعة إلى الخيرات، بما فيها التحلي بأعلى الفضائل الخلقية، من تضحية وإيثار ونكران للذات، فضلا عن بذل العفو للناس.
يقول الدكتور محمود توفيق محمد سعد فيما يزيد هذه الفكرة جلاء: “إن اقتسام الأشياء عدالة وارتضاء، لا ينفي أن يكون للآخرين بها بعض الحق ولومن وجه خفي، فليس الذي يملكه هذا بخال من حق الآخرين فيه، فكل أمر الإنسان وشأنه وماله من الموجودات، حسا ومعنى، لغيره فيه بعض الحق: جسده وعقله وقلبه، ماله وولده وعلمه، تقواه وقدره وجاهه…الخ. وما يكون لأحد، ولا ينبغي له أن يتبرم من أن يستعمل الآخرون ما لهم من حق فيما ملكت يده بفضل الله تعالى. وغير قليل من الناس تضيق نفوسهم حين يطلب الآخرون حقوقهم عندهم، فترتسم آيات الضجر على الوجوه، وقد تلفظ الأفواه كلمات طاعنات، وقد تمتد الأيدي بما يؤذي الطالبين حقا لهم، وما ذلك بالمنهج الأمثل في الإسلام”(المرجع السابق: ص: 41- 42).
ويقول في موضع آخر من كتابه القيم: {إن الحكمة لتقتضي بأنه ليس الصلاح أن لا تفعل الشر، بل وأن لا تحمل الآخرين عليه، بل وأن تعينهم على الاعتصام من التردي في خباله}(ص:43).
د.عبد المجيد بنمسعود