ج- السفينة كنموذج للتحليل (سفينة أم سفن؟) :
يمثل حديث السفينة نموذجا نظريا ذا قدرة عالية على التحليل بالغ العمق والدقة، ويشكل، بلا ريب، وجها من وجوه الإعجاز النبوي، على مستوى التحليل النفسي والاجتماعي لشبكة العلاقات الاجتماعية، وما يعتريها من عوارض، وما يتحكم في حركتها وتطورها من آليات نفسية واجتماعية، في ارتباط بالرؤى العقدية والفكرية التي تؤطر كل ذلك، وتدفعه في هذا الاتجاه أوذاك.
إنه بإمكاننا أن نستخدم هذا النموذج التصوري أوالتمثيلي، ونسقطه على كل ما هوعلاقات إنسانية من أصغر دائرة (الأسرة) إلى أعلى دائرة (العالم)، مرورا بالدوائر الوسطى على اختلاف أحجامها: الزقاق أوالدرب، القرية أوالحي، المدينة، وما إلى ذلك.
فالأسرة باعتبارها مؤسسة اجتماعية ذات أهداف ووظائف وأدوار سامية، وذات تركيبة قوامها مجموعة أعضاء تتباين مواقعهم ودرجات خطورتهم في رسم معالم السير، والإسهام في تحقيق الآمال والأهداف المنشودة، في إطار من العدل والتوازن، يمكن أن ننظر إليها بحسبانها سفينة مصغرة من حيث حجمها، ولكنها خطيرة في شأنها، باعتبارها وحدة حيوية تتألف من أشخاص، لكل منهم اعتباره الإنساني، وطموحه الدفين لأن يعيش وضعا سعيدا جديرا بآدميته. إن هذه الأسرة تتأثر بما يجري على صعيدها من علاقات، وما يكتنفها من أجواء وتفاعلات، بدءا من أبسط تصرف، حركة كان أوكلمة، أوأي شكل من أشكال التعبير والمعاملة.
وقد لا يؤبه بأمور تجري داخل حماها لاستصغارها واعتبارها تافهة، ولكنها تظل تحفر في صمت، وتفعل فعلها غير المحمود في كيان السفينة، ولوبعد حين.أما إذا كان التصرف صاخبا عنيفا، على مستوى أعضاء سفينة الأسرة، كأن يكون شقاقا، أوانحرافا عن جادة الصواب، يتخذ شكله الأخطر في حالة تعلقه بالأبوين، فإن خرقا خطيرا يحدق بجدار السفينة، يكون له نتاجه الوخيم، إلا أن يتم التدارك ورأب الصدع قبل استفحال الأمر. وفي حالة التسامح مع وقوع الأخطاء، حتى تتراكم، فإن ذلك يكون مؤذنا بأسوأ العواقب بلا ريب.
ومما لا شك فيه، أن المسؤولية الكبرى عن مصير سفينة الأسرة، ملقاة على عاتق الأبوين اللذين يحتلان أعلاها، كيف لا والخرق الذي ينتج عن تقصيرهما أوانحرافهما يمكن أن يصل إلى حد التهويد أوالتمجيس أوالتنصير، كما يفيد ذلك حديث الفطرة المشهور.، ولن أغادر الحديث عن مثال الأسرة حتى أورد نموذجا للخرق الذي يعمل بدأب في جدرانها، ويتسع بلا رحمة ولا هوادة، إنه التلفزيون الذي أصبح بابا مشرعا على كل شر وسوء، وما أظنني مبالغا إذا قسته على الخمر في رجحان ضرره على نفعه، إلا أن يكون أمر تدبيره بأيدي غاية في الحكمة والصرامة، والقدرة على نزع الشر من بين ثنايا الخير وفصله منه كما تفصل الخمرة من الماء.
وليقس على مثال الأسرة، مع تكبير الصورة، كل وحدة من الوحدات الاجتماعية المذكورة، فكل ما يجري فيها يؤول في نهاية المطاف، إلى ما تؤول إليه سفينة البحر، سلبا أوإيجابا، تبعا لما يقترف فيها من صلاح أوفساد.
ولا يغرن الناظر إلى مجرى الأحداث والتفاعلات على مسرح تلك الوحدات، ما قد يظهر على سطحها من مظاهر الاستقرار، فهي أشبه في حالة الفساد وتعدد الخروق، بسفينة يتسرب إليها الماء بكميات دقيقة على أمد قد يطول نسبيا، ولكن غرقها محقق على كل حال، ولن تجدي معه المياحات ولوكثرت، بعد أن تكون ساعة الحسم بالعقوبة قد حانت، ولات حين مناص.
إن القيام على حدود الله يقتضي تضافرا من قوى المجتمع على حفظ حرماته، بتطبيق أحكام شرعه، وتمثل قيمه وأخلاقه، والأخذ على أيدي العابثين المتجرئين على تلك الحرمات، تحت أي لافتة من اللافتات، أوشعار من الشعارات.وفي الحالة التي تحدث فيها الغفلة وترتخي قبضة الحراس عن سلاح اليقظة، تنهال فؤوس المستهترين على جدار سفينة المجتمع يمينا وشمالا، وتثخنها بالخروق والثقوب.
إن الخروق التي تصيب سفينة المجتمع، قد تتفاوت في أحجامها، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن اجتماع الخروق وتراكمها عليها حتى في حالة كونها صغيرة، من شأنه أن يصنع ذلك التحول المشؤوم الذي يتمثل في التصدع والانهيار، فما بالك إذا كانت الخروق كبيرة هائلة. إن استشراء المعاصي والموبقات على متن سفينتنا، من ظلم وفجور، وتبرج وسفور، وتعاط للربا والخمر والزنا، والرشوة والارتشاء، في تشابك مع الرذائل النفسية الأخرى كالغيبة والنميمة، والبخل والكبر، والخديعة والخيانة والغدر، كل ذلك خروق هائلة تتجه بالسفينة إلى مصيرها المحتوم، في لحظة من ليل أونهار.
والطامة الكبرى، هي أن تسوغ تلك الكبائر جميعا ويروج لها تحت أسماء وعناوين ما أنزل الله بها من سلطان، تتولى كبر ذلك شرذمة من الأقذار تحت غطاء الثقافة، عبر منصات يقيمها الشيطان، هي عبارة عن إعلام فاجر يزين الفواحش والخنا، ويعمل على إضعاف ولاء الناس تجاه المقدسات، وإتلاف مناعتهم، حتى لا ينبض لهم عرق، غضبا لها، وإدانة للطاعنين فيها، المتجرئين عليها. إن المرء لتأخذه الحيرة أي مأخذ، وهويرى مجلات خليعة تتسكع في الأكشاك والمكتبات، أتت على الأخضر واليابس، ولم تترك مما تحترمه الأمة شيئا، إلا وامتهنته واقتحمت حماه، بكل صفاقة وانعدام حياء، سواء تعلق الأمر بما هووطني أوبما هوديني.يفعلون ذلك وهم يشعرون بأمن غريب، يثير ألف تساؤل وتساؤل، فقد داسوا كل الخطوط الحمراء، ولا من حسيب أورقيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل. إن المرء لينظر بألم وإشفاق، والحسرة تملأ قلبه، إلى سفينة مجتمعنا وهي تغص بالمياه العادمة، وتمتلئ بالحيات والعقارب، وتميل بأهلها نحوالقاع، إلا أن يشاء الله بعباده لطفا.
إن أي موقف يتخذ من قادة عالمنا العربي والإسلامي لايراعي مصلحة الأمة العليا، يعد خرقا يقترف في حق سفينتها، يجعلها تجنح نحوالتحطم والانكسار، وإن أي سكوت على ذلك أوتقصير في تقويم الاعوجاج، يعد مساهمة في ذلك الصنيع الشنيع.وهل يرجى لسفينة العالم العربي والإسلامي سلامة واتجاه نحوهدفها المنشود، والحال أن السرطان الصهيوني قد التصق بكل شراسة وشراهة بكل موضع فيها؟ إن محووصمة التطبيع، والعمل على اقتلاع ذلك السرطان البغيض من جسم سفينتنا المنهك، مقدمة أساسية لأي إنقاذ مرتقب.
أما إذا نظرنا إلى سفينة المجتمع العالمية، أوسفينة البشرية، فإننا نرى أنها ليست أحسن حالا، ولا النجاة لها أقرب منالا، لأنها ابتليت بربابنة لا يعدون أن يكونوا لصوصا محتالين، يظهرون براعتهم في تكبيل المستضعفين من الركاب، والسطوعلى غذائهم ومتاعهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم، باستثناء من يدينون لهم بالعبودية والولاء، فهؤلاء يحظون لديهم بكرسي، ولقمة ممرغة بأوحال الذل والهوان. ولن ينقذ هذه السفينة من الأعاصير والريح العقيم التي تهب عليها من كل جانب إلا هبة عالمية يحمل لواءها المسلمون باعتبارهم مؤهلين لها عقديا وتشريعيا وحضاريا، تسندهم في ذلك جبهة عريضة تضم جميع الشرفاء المنصفين الكارهين للخسف والجور، المحبين للعدل والإنصاف والانعتاق. ويعني هذا أن يطوح بكل المنظمات والهيئات المسماة دولية، بكل أشكالها وألوانها، ويستبدل بها منظمات ذات مصداقية وجدارة بحمل هم الإنسانية على عاتقها، وخط الخطط والاستراتيجيات الكفيلة بالتطهير والتحرير والتنوير، ومعاقبة الجناة وإقصائهم من ساحة الإنسانية، وما ذلك على الله بعزيز، {ولتعلمن نبأه بعد حين}(ص:88) {ويقولون متى هوقل عسى أن يكون قريبا}(الإسراء:51). إن ما يسمونه اليوم بالقرية العالمية المقهورة تحت سلطان العولمة، لن يتم لها الانعتاق إلا بترياق الأسلمة، وهوأمر دونه جهاد مرير، تحشدله الطاقات، ويسترخص من أجله كل غال ونفيس.
د. عبد المجيد بن مسعود