كان كل صحابي بطلا في عالم القلب والروح، وكان مجتمع الصحابة مجتمعا متميزا مباركا نشأ في ظل فيض وبركة القرآن. واستطاع هؤلاء الصحابة إجراء تأثير عميق وكبير على قسم كبير من العالم، حتى أن عملهم هذا ما كان يقل من ناحية الروعة الخارقية عن قلع الجبال عن أماكنها أو سقي الأموات ماء الحياة أو ربط السماء بالأرض. وما كان هناك أي مجتمع آخر يمكن مقارنته بمجتمعهم الفريد هذا. فهؤلاء الصحابة الذين عجنوا روح القرآن وتشكلت أنفسهم حسب مبادئه السماوية، أي أصبحوا من ناحية الروح والمعنى ترجمانا للقرآن، استطاعوا تحقيق المستحيلات وفتحوا به طرق الخلود أمام الأرواح الميتة، وغيروا وجه الدنيا، ونقلوا الإحساس بلذة عالم الروح إلى المجتمعات التي احتكوا بها وتعرفوا عليها، وكسروا الأقفال الموجودة على الأفكار وفوق الأفواه، ورفعوا الإنسان مرة أخرى إلى المرتبةالرفيعة التي رفعه الله إليها وشرفه بها، وقدموا نظرة جديدة وتفسيرا جديدا لموقع الإنسان في الكون بين الموجودات، وركزوا الأنظار على السر العميق الموجود بين الأوامر التكوينية وبين القواعد الشرعية، شارحين وموضحين الغاية والحدود النهائية للقلب والإرادة والأحاسيس والمشاعر، ومحركين باعثين أصول وأسس القيم الكامنة والنسبية الموجودة في روح الإنسان، لكي يوجهوا الإنسان العادي إلى طريق الإنسان الكامل، فنجحوا في جعل الإنسان يحس في كل ما يقع بصره عليه أو يصل إليه بأحاسيسه، أو يحس به قلبه أصابع الإرادة والقدرة الإلهية اللآنهائية، أي ربط كل شيء وإرجاعه إلى صاحبه الأصلي.
إن كان المؤمن مرتبطا بهذا المقياس بقلبه وروحه وبمشاعره وبأفكاره وبعقله بالله يكون قد ابتعد تماما عن سطحية الارتباط بالجسد وبمطالبه، وينظر إلى الحياة من زاوية أخرى ويرى لها طعما آخر؛ أي ينتبه إلى ما وراء أفق هذه الحياة. ومثل رجل الحقيقة هذا يرى ويشاهد في كل شيء في هذا الوجود العلم الإلهي مرفوعا عليه، ويد القدرة عاملة فيه، فيحس برجفة، وتتداخل في نفسه مشاعر الأمل والقرب مع الخشية والرهبة. ومع كونه يعيش في الدنيا إلا أنه يحس وكأنه في ذروة من ذرى الآخرة. عندما يأخذ نفسا يحس بالأمل والترقب، وعندما يعطي نفسا يحس بالمخافة والمهابة. ويتحول دائما في الساحة التي رسمها القرآن ويعيش حياته في ظلال القرآن وألوانه.
إن هذا القرآن يوجه خطابه للإنس وللجن أجمعين. يأمرهم وينهاهم ويضع المحرمات أمامهم، ينقل كلامهم وكلام الشياطين. وهو في كل هذا معجز على الدوام. ولا يكمن إعجاز القرآن هنا في مجرد النقل، بل في كيفية هذا النقل، والعناصر والصور والنقوش التي يستعملها ويختارها. والناحية الإعجازية الأخرى فيه هي أن هذه الأخبار التي ينقلها غيبية.
أجل! فقبل كل شيء فإن اختيار القرآن للعناصر والأدوات اختيار رائع وخارق للعادة. ثم إن القرآن يستعمل هذه العناصر والأدوات في أسلوب مختلف معجز لا يمكن الوصول إليه ولا حتى مقاربته. أسلوب يخرج عن طاقة الإنس والجن. ولكن لكي ندرك هذه الناحية علينا النظر إلى آيات القرآن نظرة واسعة وشاملة، ولكي نوضح هذا الإعجاز علينا إعطاء بعض الأمثلة وبعض التفاصيل:
كثيرا ما نحس بأحاسيس ومشاعر في أعماق أرواحنا، ولكننا نعجز عن التعبير عنها، عند ذلك نئن تحت ألم العجز ونقول كما قال الشاعر” محمد عاكف”:
أبكي وأنوح… ولكن لا أستطيع إثارة البكاء!
أحس بالألم… ولكن لا أستطيع بث لواعجي!
آه من قلبي الأخرس!… كم أشكو منه!
أجل ! هناك العديد من الأشخاص الذين لا يستطيعون التعبير بدقة عن أحاسيسهم العميقة، عندما يتحدثون أو يكتبون، فيطوون قلوبهم على آلام هذا العجز..! وهذا العجز قد يكون عجزا نسبيا أو مطلقا، لا يستطيع التعبير بكل سهولة ويسر عن كل شيء، يظهر هنا في الجهة الأخرى الإعجاز النسبي أو المطلق كذلك. فإن كان هناك إعجاز مطلق فهو خاص بالقرآن الكريم فقط.
فإن تناولنا القرآن من هذه الزاوية نستطيع أن نقول: “سواء تكلم القرآن بلسان الشيطان أو الجن أو الملك أو فرعون أو نمرود أو شدّاد فإن الأسلوب المستخدم في البيان والإفصاح يعود للقرآن تماما. وهذا الأسلوب خارق للعادة إلى درجة أن بابه يظل مفتوحا لجميع المعاني الإشارية والرمزية، ويكون صالحا لتفاسير واسعة ولا يوجد أي بيان آخر يستطيع التعبير عن غايته بهذه الروعة المعجزة.
نستطيع- إن أحببتم ذلك- تناول الموضوع من زاوية مختلفة:
لكل كلام توجهات مختلفة نحو اللطائف الربانية في الإنسان كالقلب والسر والخفي والأخفى، حيث يستهدف الوصول إلى هذه اللطائف فإن كانت فيه تناقضات بين هذه المراتب من ناحية المعنى دل ذلك على نقص في هذا الكلام.وهذا النقص الموجود -بنسب مختلفة- في البيان البشري بأجمعه. أما القرآن فبريء من مثل هذا النقص ومنزّه عنه.
وهنا يرد شيء آخر كذلك، وهو إن كانت المعاني الواردة إلى القلب قد نخلت وصفيت من خلال التخيل والتصور والتعقل وحافظت على نفسها ووصلت إلى مرحلة اللفظ والإفصاح عُدّ هذا بيانا ممتازا. أحيانا لا يستطيع الكلام تجاوز هذه المراتب دون تغيير وتبديل، فيبقى في إطار الحديث للنفس، وتفوته فرصة الوصول إلى مرحلة اللفظ والتعبير الخارجي. أما تعبير علام الغيوب -الذي يعلم السر وأخفى- عن هذا الحديث النفسي الصامت فمسألة أخرى لا نريد الخوض فيها، لأننا نريد هنا الاقتصار فقط على الكلام الملفوظ: إن كان الكلام قد أستطيع التعبير عنه كما تم تخيله، أي إن كانت النية وإرادة التعبير متناغمة مع التعبير فمثل هذا الكلام كلام تام وكامل. فإن كان العكس، أي إن لم يستطع التصور احتضان التخيل بشكل كامل والإحاطة به، عدّ هذا التعبير أقل مرتبةمن التعبير السابق. فإن لم تستطع ملكة التعقل التعبير عن المعاني المحملة بها؛ فهذا يعني أنها فقدت بعض أعماق التصور والخيال. وهكذا فالكلام الذي يفقد الشيء الكثير بالنسبة إلى مستوى الخيال الرفيع عند مروره من هذه المراحل والمراتب يعد كلاما ناقصا. أما الكلام الذي يستطيع التعبير عن معاني صاحبه ومفاهيمه ونيته بعمق؛ فهو الكلام الكامل التام. والمثال الرائع الوحيد لمثل هذا الكمال هو القرآن الكريم. لذا يجب البحث عن هذا الكمال في محافظة القرآن على عمق الخيال والتصور عند قيامه بنقل الكلام عن أي كائن.
وما من أحد يستطيع الإتيان بمثل هذا الكمال وبمثل هذه الروعة. أجل فما من أحد – سواء أكان ذلك إنسا أم جنا أم ملكا- يستطيع اصطياد المعاني وهي في مرحلة التخيل والنية، ثم نقلها إلى مرحلة التعبير بمثل هذا الكمال. أي أننا لا نستطيع أبدا النجاح في تحقيق هذه المقاييس في الكلام والبيان. إذن فالبيان القرآني الذي حقق هذه المقاييس بدرجة الكمال بيان يعجز عنه الآخرون، أي هو بيان معجز وإلهي.
{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا!}(الكهف:10).
وصلى الله على سيدنا المقتدى، وأصحابه ذوي القَدْرِ العَلِيِّ والتقى.