إن كنت أنسى فلا أنسى ما حدثني به أستاذ جامعي لمادة الرياضيات، في ثمانينيات القرن الميلادي الماضي، حينما ذكر لي أنه كان يدرِّس مادة الرياضيات في الجامعة المغربية بالعربية. وكان الأمر الذي أثارهُ الإقبال المنقطع النظير من قبل الطلبة، لا من جانب طلبته فقط، ولكن من قبل عموم الطلبة، حتى من أولئك الذين كانوا في الصفوف المتقدمة، كان يتابعون محاضراته من أجل تصحيح معلوماتهم أو تعميقها أو تجديدها.
وخلال ذلك الزمان أيضا حدثني أستاذ للفيزياء بالمدرسة العليا للأساتذة -وهو حامل لشهادة الدكتوراه وخريج إحدى الجامعات الفرنسية- أنه لم يفهم حَقَّ الفهم وأدقّه مصطلح “pondule” بالفرنسية إلا بعد أن خاض في تعريب مقررات الفيزياء في المدارس الثانوية.
ويدور الزمان دورته، ليحدثني منذ أيام فقط أستاذ جامعي في مادة الجيولوجيا بكلية العلوم، قُدِّر له أن يدرس المادة لطلبة الجغرافيا بكلية الآداب، وبحكم أن جميع مواد شعبة الجغرافيا تُدرس بالعربية -نسأل الله السلامة من انقلاب خفي فيها- فإنه يدرس المادة بالعربية، وأكد لي أنه لفت انتباهه إقبال طلبة آخرين وبكثرة، من غير المستوى الذي يدرّسه على مادته، إلى درجة أن القاعة -على سعتها- تضيق بهؤلاء الحاضرين.
وفي لقطة رابعة كنت قد حضرت لقاءً شعريا ضم مجموعة من الشعراء الشباب الذين يقولون الشعر بالعربية وبغيرها… طُلب في بداية اللقاء من رئيس لشعبة اللغة الفرنسية وآدابها أن يقول كلمة بالمناسبة -على غرار الكلمات التي ألقيت بالعربية والإسبانية- وتم التنصيص على أن يقول كلمته بالفرنسية لكن رئيس الشعبة هذا أبى إلا أن يقول كلمته بالعربية، قبل أن يختمها بالفرنسية، ولقد كان بليغا في الحالتين… وإذا كان الرجل بليغا في الفرنسية بحكم التخصص، فإنه ربما من الغريب أن يكون بليغا في العربية. لقد بيّن في هذه الكلمة بالعربية أموراً عديدة تتعلق بجمال العربية وأهميتها في التعبير الشعري… وكان مما لفت انتباهي أكثر، قوله : >إن العودة إلى العربية بعد اغتراب لغوي في لغة أخرى، وبعد خبرة دقيقة تخصصية داخل اللغة المغترب فيها، تحلو العودة إلى الأصل العربي لكل من كان له ذوق لغوي وأدبي متميز، لأنه سيكتشف في هذه اللغة الأصيلة ما لم يكتشفه الذي لم يغترب عنها قط. ولذلك دعا الحاضرين من الشباب إلى العودة إلى اللغة العربية الفصيحة الأصيلة، لأنها لغة الأدب والعلم، ولأن الذي يتذوقها عن علم يجد لذة منقطعة النظير، وإحساساً بالجمال الشعري الآخاذ ربما لا يوجد في أي لغة أخرى.
وأُضيف لقطة خامسة أن هناك جمعية مغربية لحماية اللغة العربية، أسست منذ مُدّة، والسيد المؤسس لهذه الجمعية الأستاذ موسى الشامي حفظه الله أستاذ متخصص في اللغة الفرنسية. وكم دعا هذا الأستاذ في أكثر من مناسبة ومقام، ومن منطلق اغترابه في تخصص اللغة الفرنسية، بل ومن منطلق آخر أكبر منه كان عضواً وربما مسؤولا في جمعية للأساتذة المدرسين للفرنسية، دعا أكثر من مرة وبحجج دامغة إلى ضرورة العودة إلى اللغة العربية، واستنكر كما يستنكر كل مغربي غيور ما يلطخ ألسنتنا وشوارعنا ومحلاتنا، وقبل ذلك وبعده، إداراتنا من سيطرة اللسان الأجني الفرنسي، حتى إن الزائر لهذا البلد العزيز يتساءل هل هو فعلا داخل بلد لغَتُه الرسمية هي العربية.
إن هذه الحالات كلها تدل دلالة قاطعة أن اعتماد اللغة العربية في جميع القطاعات : في الإدارة، في المدرسة، في الجامعة، في الشارع أمر ضروري، وإن كان من مجال ينبغي التنصيص عليه أكثر هو المجال الجامعي والإداري. فكم من طالب جامعي يدرس الطب أو الرياضيات أو الهندسة أو غيرها من المواد العلمية بلغة أجنبية لا يفهم الكثير مما يقدّم له لأنه لا يعرف هذه اللغة حق المعرفة، ولأنه غريب عنها.
إن الاحتجاج بأن الأستاذ المدرس يحتاج بشكل مستمر إلى ترسانة من المصطلحات المتجددة ومن ثم ليس هناك من بد من التدريس باللغة الأجنبية أمر مردود جملة وتفصيلا فقدرة الأستاذ الجامعي المغربي والعربي عموما. في العلوم المادية ومعرفته المسبقة باللغة العربية يجعله مؤهلا للتدريس باللغة العربية.
وبيان هذا الموضوع قد أوضحته العديد من الأبحاث العلمية.. ويكفي أن نشير في لقطة أخيرة إلى أهمية التدريس باللغة العربية ودوره في التكوين العلمي المتميز للطالب.
لقد كان خريجو كلية الطب بسوريا إلى حدود بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي يُقبَلُون في كليات الطب الفرنسية من أجل التخصص دون أي شرط أو امتحان أو انتقاء مع أنهم كانوا ومازالوا يدرسون الطب بالعربية. بينما كان طلبة شمال افريقيا يخضعون من أجل قبولهم إلى إجراء مباراة أو انتقاء مع أنهم كانوا ومازالوا يدرسون الطب بالفرنسية، ولم تشفع لهم فرنسيتهم بالقبول المباشر على غرار زملائهم السوريين..
بكل تأكيد هذا يرجع إلى تمكن الخريجين السوريين من التخصص الطبي بشكل أدق بسبب دراستهم باللغة العربية.
د. عبد الرحيم بلحاج