كان المتخصص في العلوم الشرعية، أو الفقيه، أيام ازدهار حضارتنا الإسلامية، يقود الحياة، ثم ما لبث زمن انكسارنا الحضاري والسياسي، أن انسحب إلى هامش الحياة، فأصبحت تقوده بضغط الضرورات النفسية والاجتماعية والوظيفية. وكان يملك عقلاً ابتكارياً متوقّداً، يقدر في لحظة على تكييف هذه المفردة أو تلك وفق مقاصد الشريعة، فيعين على تمكين الخبرة الإسلامية من التواصل والاستمرار والالتحام بالحياة، ثم ما لبث أن فقد هذا التألّق، أو تعمّد أن يطفئه استجابة لحالة اجتماعية يحكمها تقليد السابقين واتباع خطى الآباء والأجداد، وتعين على نسج خيوطها الكالحة ضغوط السلطة الاستعمارية الخارجية تارة والداخلية تارة أخرى، وهي الضغوط التي استهدفت عزل الشريعة عن الحياة، ونسف الجسور المقامة بين الطرفين بما فيها “الفقيه” الذي أريد له ألاّ يشارك في عملية التغيير أو الصياغة أو إعادة تعديل الوقفة، وأن يتحوّل إلى واعظ، أو خطيب جمعة تقليدي، أو مدرّس دين ولغة عربية يتلقى في معظم الأحوال أجره الشهري من الحكومات. وإذ تعمد أن يكون الأجر زهيداً لا يكاد يسدّ الرمق، وكان العالم أو الفقيه غير قادر على أية حرفة إضافية تعينه على الارتقاء بمستواه المعاشي صوب الحدّ الأدنى من سويّته المعقولة، انعكس ذلك كلّه عليه، فأصبح مسحوقاً، ممتهناً، ضعيفاً، لا يملك في معظم الأحيان “الشخصية” الآسرة القوية المؤثرة التي تمكنه من أداء دوره المطلوب.
لقد رأينا جميعاً هذا بأم أعيننا.. ثمة حالات استثنائية بكل تأكيد، ولكنه الاستثناء الذي يعزّز القاعدة ولا ينفيها.
في محاضرة عن “قيمة التاريخ” ألقيتها في الموصل قبل بضع سنوات، أشرت إلى ما يمكن اعتباره إحساساً بالنقص “مركب نقص” يعاني منه طلبة أقسام التاريخ في جامعاتنا تجاه الفروع المعرفية الأخرى : إنسانية وصرفة وتطبيقية، بينما نجد هؤلاء الطلبة في جامعات العالم المتقدّم يتمتعون بأعلى وتائر الثقة والطموح والاعتقاد بأنهم يمضون للتخصّص في واحد من أكثر فروع المعرفة الإنسانية أهمية وفاعلية، ونحن نعرف جيداً كيف أن العديد من قادة الغرب وساسته ومفكريه والمهيمنين على مفاصل الحياة الحسّاسة فيه هم من خرّيجي التاريخ.
الحالة نفسها تنطبق -بدرجة أو أخرى- على طلبة علوم الشريعة، بل إننا قد نجد بعضهم ينحدر باتجاه وضعية من الإحساس بالامتهان النفسي والاجتماعي لم يأذن بهما الله ورسوله لعلماء هذه الأمة ودارسي علومها الشرعية. حتى (الزيّ) أرغم طلبة العلوم الشرعية وخرّيجوها على البقاء تحت معطفه في مساحات واسعة من عالمنا الإسلامي الفسيح، فما زاد ذلك هؤلاء إلاّ مزيداً من العزلة عن الحياة والتغرّب عن المجتمع.
نحن إذن قبالة حالة نفسية -اجتماعية- وظيفية تتطلب العلاج والتجاوز وإيجاد البدائل المناسبة لعالم متغيّر.. عالم تشاء إرادة الله سبحانه أن تشتعل فيه على مدى البصر، في مشارق الأرض ومغاربها، قناديل الصحوة الإسلامية المباركة التي تتطلب ترشيداً، من أجل ألاّ تنعطف بها السبل وتضل الطريق بين الإفراط والتفريط.. بين تشدّد لا يشكمه ويعيده إلى الجادة إلاّ العلم الشرعي المنضبط الصحيح، وتسيّب لا يكفّه عن الترهّل والارتجال الكيفي إلاّ العلم الشرعي المنضبط الصحيح. وفي الحالتين لابدّ من عودة الفقيه أو العالم إلى قلب الحياة، وتسلّمه كرة أخرى مواقع الريادة والقيادة.. لابدّ من التحقّق بأفضل وتائر الفاعلية والتألّق من أجل تحقيق الهدف الملّح قبل أن يفلت الزمام وتتشرذم الصحوة المدهشة، ونفقد جميعاً القدرة على توظيفها تاريخياً من أجل تنفيذ المشروع الحضاري الإسلامي الذي آن له أن ينزل إلى الحياة لكي يجيب -كما يقول كارودي- على كل الأسئلة الكبيرة التي تؤرّق الإنسان في العصر الراهن، ويقدم البديل المناسب بعد انهيار جلّ النظم والايديولوجيات الشمولية الوضعية التي لم تعرف الله.
وإذا كان الاستعمار -يوماً- قد مارس دوره الماكر في لعبة تجهيل (العالم) وإفقاره وتعجيزه وتغريبه، ومضى أكثر لكي يعزله تماماً عن الحياة، و(يفصّله) على الصورة التي يريد، فما يلبث أن يصير (حالة) يتندّر بها المتندرّون، فان هذا المؤثر السيء قد غادر بلادنا في نهاية الأمر، فلسنا ملزمين بالاستمرار على تقاليده، ولابدّ من التداعي لتعديل الوقفة الجانحة التي صنعناها بأيدينا -أولاّ- ثم جاء الاستعمار لكي يزيدها انحرافاً وجنوحاً.
د. عماد الدين خليل