إن الذي يرى ما عليه الناس هذه الأيام من تسابق نحو المسؤولية، وتهافت على تحمل الأمانة، يدرك مدى استهانة الناس بهذا الأمر، وعدم استشعارهم خطورته، فلو علم الناس ما في التّصَدُّر والرياسة وتحمل الأمانة لوَلَّوها الأدبار، وفروا منها كما فر منها سلفنا الصالح، وقد كانوا أحق بها وأهلها، ولكن لما عظمت في أعينهم، وسمعوا كلام ربهم {وقفوهم إنهم مسؤولون}(الصافات : 24) وجفت قلوبهم، وتصدّعت أركانهم حتى قال الفاروق لمن أشار عليه بتولية ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : يكفي آل عمر أن يحاسب منهم واحد على أمة محمد.
بل انظر إلى حفيد الفاروق وشبيهه والسائر على نهجه عمر بن عبد العزيز، وقد جلس يبكي بعد أن سمع وصية سليمان بن عبد الملك التي عهد فيها بالخلافة إليه، ثم خطب في الناس وخلع نفسه، فصاح الناس : قد اخترناك ورضينا بك.
ما فعل عمر ذلك إلا لأنه شعر بثقل المسؤولية ورأى بعين قلبه تبعاتها. فلا غرابة إذن أن تسمع أنه رحمه الله كان يغشى عليه إذا تذكر هوْل الوقوف بين يدي الله جل وعلا للحساب، وتذكر عظم المسؤولية، واستمع معي لهذا الأثر لتعلم كيف كان القوم، فبينما عمر رحمه الله يسعى بين الصفا والمروة إذ قال له وزيره الصالح رجاء بن حيوة -الذي كان يشد عضده ويثبته بمواعظه ونصحه، وما أفسد الولاة والأمراء والمسؤولين إلا بطانة السوء- قال رجاء بعد أن نظر إلى جموع الناس في المسعى : أرأيت يا أمير المومنين هذه الجموع؟ قال : أجل.
قال رجاء : فكلهم سيحاسبه الله على نفسه، أما أنت فسيحاسبك عليهم جميعا، فسقط عمر مغشيا عليه. ثم استدار الزمان نبتت فيه نابتة ترى المسؤولية مغنما، والولاية مكسبا، ووسيلة للثراء وتضْخِيم الأرصدة البنكية، وهذا لعمري هو العمى الذي أصاب القلوب والبصائر قال سبحانه {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}(الحج : 46).
فإلى كل من يلي شيئا من أمر المسلمين، الله الله في أنفسكم لا تلقوا بها إلى التهلكة، والله الله في من تلون أمره من المسلمين سُسُوهم بالعدل، وارحموا ضعفهم وسُدُّوا خلتهم، ومسك الختام حديث لسيد الأنام يقض المضاجع، وتوجل منه القلوب الحية، قال : >ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة يده إلى عنقه، فكَّهُ بِرُّه أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة<(السلسلة الصحيحة 349).
فاللهم ول أمورنا خيارنا ولا تول أمورنا شرارنا، و أبرم لهذه الأمة إبرام رشد يُعَزُّ فيه أولياؤك ويذل فيه أعداؤك، آمين.
ذ. منير مغراوي