الصلاح والإصلاح من مقاصد الإسلام وأهداف الدين الكبرى، لأنه بفقد هذا الخلق تنتشر المفاسد والعداوات والخصومات، وتنشب المعارك والقتال وتشتعل نارالحروب وتظهر المساوىء والآفات الضارة بالفرد والأسرة والمجتمع:
> إذا وقع خلاف بين المرأة وزوجها قد يتطور إلى الطلاق.
> إذا حصل خصام حول أمور الدنيا قد يفضي إلى القتل.
> الاختلاف الناجم عن العداوة قد يؤدي بالأولاد إلى عق آبائهم، وبالآباء إلى هجر أولادهم ونبذهم، وإلى قطع الأرحام.
> في ظلال الفساد بين الناس تنتعش جراثيم الحسد والنميمة والكيد والكذب واللمز والهمز والغمز والتنابز بالألقاب.
هذه الأوضاع تفكك المجتمع وتفرقه ولايصلح معه حال الناس، من هنا تظهر لنا حكمة حرص الإسلام على قطع دابر الخصومات والعداوات، وأمره بالإصلاح بين الناس، وأن لا يقعد الإنسان ناظرا مشاهدا وربما فرحا مستبشرا ضاحكا من الصراعات كأنه شيطان، فتراه يسعى لتفريق الصديقين، والمتزوجين، ويمشي بالنميمة بين الرئيس ومرؤوسه -في العمل-، وبين الجيران، والأقارب. أينما حل وارتحل همه الوحيد نشر العداوات، والتحريش بين الناس ليطعن بعضهم في بعض ويشمت بعضهم ببعض، ويغتاب بعضهم بعضا، نسأل الله العافية. وهذا كثير بين الرجال وأكثر منه بين النساء.
النصوص القرآنية ودلالاتها في الموضوع
< دعوة الإسلام إلى الصلح والإيجابية في العلاقات الإنسانية:
يقول الله تعالى: {يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مومنين}(الأنفال:1). “أي:اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولاتظالموا ولاتخاصموا ولاتشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه”(2).
إن العاقل يفكر وفق منهج القرآن، يعطي الأشياء مقاديرها الحقيقية، ماذا تساوي الدنيا بمافيها ومن فيها في ميزان الآخرة؟! فالأصل في الحياة الاجتماعية ربط العلاقات الإيجابية مع الناس من خلال قيم التعاون والبر والتناصر، والسعي للحفاظ على هذه الحالة الإيحابية بالتدخل لدفع ودرء أسباب الشقاق والعدوان، وإصلاح مافسد بين الإخوان.
< رسالة الأنبياء إصلاحية(نموذج هود عليه السلام):
قال الله تعالى: {قال ياقوم أرايتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا جسنا وما أريد أن اخالفكم إلى ماأنهاكم عنه إن اريد إلا الاصلاح مااستطعت وماتوفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}(هود:88). فهذه رسالة هود رسالة إصلاح، وكذلك رسالة الأنبياء : الإصلاح؛إصلاح القلوب والأجساد والحياة، وإصلاح ذات البين لتطبيق أحكام الوحي، لأنه بفساد ذات البين يتعطل الكثير من أحكام الدين.
< التدخل لمنع أسباب الفرقة والعداوة قبل الوقوع:
-قال عز وجل: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}(البقرة:182). “الخطاب بقوله”فمن خاف”لجميع المسلمين. قيل لهم: إن خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف، وذلك بأن يوص بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى ابن ابنه . والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب؛ فبادروا إلى السعي في الإصلاح بينهم؛فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا أثموا”(3). لأن الوصية للبعيد وحرمان القريب يوغر(4) صدر القريب المحروم، فانظر كيف يضع الإسلام الحلول الوقائية قبل حصول المشكلة!
< من خير الكلام أن تصلح:
قال سبحانه: {لاخير في كثير من نجواهم إلا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نوتيه أجرا عظيما}(النساء:114).
إن من خير كلام الإنسان السعي لإصلاح ذات البين كما قال رسول الله : >كلام ابن آدم كله عليه لا له، ماخلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله عز وجل<(5). ومن الأمر بالمعروف الجمع بين المتفرقين وإحداث الصلح بين المتخاصمين، ومن النهي عن المنكر إنهاء حالة العداوة بين المؤمنين، وليس تكريسها وإذكاء لهيبها كما يفعل بعض مرضى القلوب ممن يروجون لحالة الخلاف بشماتة وانتشاء.
ولمنزلة الإصلاح بين الناس العالية، قد يرخص في وسائل ممنوعة أصلا لتحقيق مصلحة الصلح: قال رسول الله : >ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا<(6). فهل بقي بعد هذا القول النبوي عذر لمعتذر!؟
< التدخل والمبادرة للإصلاح بين المتخاصمين:
قال تعالى: {وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}(الحجرات:9). “فأصلحوا” بصيغة الأمر تقتضي هنا الوجوب والفورية وعدم التراخي عن حل المشاكل الواقعة بين المؤمنين. لئلا تتطور الأوضاع إلى الأسوأِ والأنكى. ذلك أن حالة الإيمان تقتضي حل المشاكل ودفع الخصومات للتمكين لقيم الأخوة والتعاون على البر والتقوى أن تترسخ في التربية الإسلامية، ولتفويت الفرصة على إبليس وأعوانه الذين يتربصون ويترصدون عباد الله المؤمنين. فقد قال سبحانه: {إنما المومنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}(الحجرات:10).
< فضل الإصلاح بين الناس:
الله لايضبع أجر من أصلح بين الناس:
قال عز وجل: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لانضيع أجر المصلحين)(الأعراف:170). إن محبة كتاب الله والتمسك بمعانيه، وإقامة الصلاة، خصال تبعث على الصلاح والإصلاح، والله سبحانه وتعالى يجازي ويكافىء على الإحسان والإصلاح. ذلك أن الإسلام ليس مجرد صلاة وقرآن يتلى وكفى، بل هو -أيضا- سعي للإصلاح ونشرالخير. وإنك لترى في واقعنا من يعمر مساجد الله، فإذا خرج منها خلع عنه إسلام المعاملات، وكأن الدين ماهو إلا إسلام عبادات. فتجده في الأسواق والعمل والسكن يخدم رسالته في إحداث الفتن بين الناس. وكأنه ماقرأ قرنا ولااتعظ بسنة ولا طرب لقول شاعر يقول: لكل شيئ زينة في الورى وزينة المرء تمام الأدب قد يشرفُ المرء بآدابه فينا وإن كان وضيع النسب كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسبِ إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
< الإصلاح بمنزلة الصدقة في الأجر والثواب:
عن أبي هريرة ] قال: قال رسول الله : >كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقةٌ، كلُّ يوم تطلُع فيه الشمس: تعدِل بين اثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابته فتحملُه عليها، أو ترفع له عليها متاعَه صدقة. والكلمةُ الطيبةُ صدقة، وبكلِّ خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقةٌ<(7). فأن تعدل بين شخصين وتصلح بينهما معناه أن يثبت لك عند الله ثواب صدقة تتصدق بها؛ الله وحده يعلم وزنها، هل يقدرها لك بالآلاف أو الملايين أو الملايير، فهو سبحانه يضاعف الصدقات أضعافا مضاعفة.
< علو درجة الإصلاح:
عن أبي الدرداء ] قال:قال رسول الله : >ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام والصدقة؟ قالوا بلى يارسول الله! قال: >إصلاح ذات البين<. قال:>وفساد ذات البين هي الحالقة<(8). إنها منزلة تبعث على التنافس والمسارعة للقضاء على الخلافات بين المسلمين أفرادا ومجتمعات ودولا. للتفرغ لمشاريع التنمية التي تنتظر كثيراً من بلداننا عوض إفراغ الجهود العقيمة في التسلح ورصد المبالغ الكبيرة لخوض معارك جانبية بين الإخوة والجيران، لاتدر إلا الفقر والأزمات.
الهدي النبوي التطبيقي في الإصلاح
<الاستعداد النفسي للصلح بالعفو:
قد تكون إرادة الإصلاح قائمة لدى المصلح، ولكن الطرفين غير مستعدين للتصالح وهذه عقبة حقيقية لا بد من إزالتها.
قال الباري سبحانه: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لايحب الظالمين}(الشورى:40). حرم الله الظلم، وشرع القصاص، لكن ندب إلى العفو والإصلاح والصفح {ولمن صبر وغفر} أي :صبر على الأذى وستر السيئة {إن ذلك من عزم الأمور}. عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر والنبي جالس، فجعل النبي يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي وقام، فلحقه أبوبكر فقال:يارسول الله، إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت!قال:”إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان”. ثم قال:”ياأبا بكر، ثلاث كلهن حق، مامن عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها لله، إلا أعز الله بها نصره. ومافتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله كثرة، ومافتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة”(9). وهذا فيه تأصيل لخلق التسامح في حياة المسلمين، وترك الانتقام، وقد أثبتت التقارير الطبية والنفسية أن الشعور بالمزيد من الإيجابية مع الآخرين له تأثير نافع على وظائف الجهاز الدوري والجهاز المناعي(10).
إذا ماالذنب وافى باعتذار فقابله بعفوٍ وابتسام ولاتحقد وإن ملئت غيظاً فإن العفو من شيم الكرام
كما أن في التسامح والعفو انتصار لقيم الدين لأن المسلم لاينتقم لذاته بقدر ما يحرص على بقاء رسالته، ولو على حساب شخصه، ومن نصر دين الله نصره الله وأعزه لذلك، قال : >ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن : لاينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولايعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها عزا<. وقال أبو سعيد مولى بني هاشم >إلا زاده الله بها عزا يوم القيامة ولايفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر<(11).
قال الشاعر:
واستشعر الحلم في كل الأمور ولا
تسرع ببادرةٍ يوماً إلى رجلِ
وإن بُليت بشخص لا خلاق له
فكن كأنك لم تسمع ولم يقلِ
وللكف عن شتم اللئيم تكرماً
أضر له من شتمه حين يشتم
<المبادرة إلى إصلاح ذات البين:
عن سهل ابن سعد ] : >أن أناسا من بني عمرو بن عوف كان بينهم شيء، فخرج إليهم النبي في أناس من أصحابه يصلح بينهم. . . <(12).
وعن سهل بن سعد ] أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله بذلك فقال: >اذهبوا بنا نصلح بينهم<(13).
هكذا كان رسول الله ، يسعى في إصلاح ذات البين عاملا بهدي القرآن.
فاللهم انفعنا بالقرآن الكريم وبسنة النبي الرؤوف الرحيم.
واحذر مساوئ أخلاق تُشانُ بها
وأسوأ السوء سوء الخلق والبَخَلِ
وكم من فتى أزرى به سوء خُلُقه
فأصبح مذموماً قليل المحامدِ
اللهم أصلحنا وأصلح بنا وأصلح على أيدينا، وعلمنا ماجهلنا وانفعنا بما علمتنا آمين والحمد لله رب العالمين.
د. محمد الحفظاوي
————-
1- باحث مغربي في الفقه ومقاصد الشريعة.
2- عمدة التفسير:2/86.
3- الجامع لأحكام القرآن:2/270.
4- يوغر من وغر صدره امتلأغيظا وحقدا.
5- عمدة التفسير:1/505.
6- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، حديث رقم2692.
7- رواه البخاري في كتاب الصلح باب فضل الإصلاح بين الناس والعدل بينهم:2707. ومسلم.
8- رواه أبوداود والترمذي. عن عمدة التفسير:1/506.
9- عمدة التفسير:3/230.
10- ينظر مقالالعفو والصحة مقال للدكتور هشام المشد منشور بمجلةالإعجاز العلمي بالصفحة18، العدد31.
11- رواه أحمد في مسنده1696.
12- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب ماجاء في الإصلاح بين الناس، حديث رقم2690.2
13- أخرجه البخاري، كتاب الصلح، باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح، حديث رقم2693.