كثيرة هي القيم والتعاليم التي يمكن أن نتلقاها ونحن نتعامل بجدّ، وإخلاص، مع سيرة رسول الله .. ولكنني سأقف دقائق فحسب عند واحدة منها تنطوي على أهمية بالغة في اللحظات الراهنة، بسبب دلالتها الحضارية.. إنها القدرة المذهلة على الإنجاز.
فنحن مغلوبون حضارياً.. ما في هذا شك.. والفارق بيننا وبين الغرب المتفوّق مادياً وعلمياً يزداد بحسابات الكم والنوع، سنة بعد أخرى وعقداً بعد عقد.. واللحاق بالخصم، أو مقاربته في الأقل، ليس أمانٍ وأحلاماً، وإنما هو في جوهره جهد مكثف وإنجاز متواصل وسعي جاد يعرف كيف يتعامل مع الزمن وكيف يمزج الليل بالنهار !
وما لم نتحقق بهذه الوتائر العالية من الإنجاز الذي ينطوي على الإبداع والإتقان والإحسان، فإن ألف سنة من التعبّد المنفصل عن الحياة، المجرد عن الفاعلية والدفع والإنجاز.. لن تتقدم بنا خطوة واحدة باتجاه اختزال المسافة بيننا وبين الخصوم : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءً يجز به..} و {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم..}.
إن أرنولد توينبي، المؤرخ والفيلسوف البريطاني المعروف، يتحدث في كتابه (دراسة في التاريخ) كيف أنه من بين بضع وعشرين حضارة شهدتها البشرية لم يتبق سوى سبع.. ست منها ـ بما فيها الحضارة الإسلامية ـ تدور اليوم في فلك الحضارة الغربية الغالبة، وقد تؤول في يوم ما إلى التفكك والذوبان في بنية هذه الحضارة.. فكيف نتجاوز هذا المصير؟
ها هنا ونحن نتلقى التعاليم من رسول الله يمكن أن نجد الجواب، كما هو الحال بالنسبة لكل المعضلات الأخرى، إنه الفاعلية.. والقدرة على الإنجاز.
لقد علّمنا رسول الله كيف يكون عمر الإنسان المحدود فرصة للإنجاز.. كيف يمزج الليل بالنهار، وكيف يجعل من الثلاثة والعشرين عاماً التي أمضاها في عصر النبوّة مجالاً حيوياً لواحدة من أكثر التجارب البشرية في التاريخ فاعلية وعطاءً.. بل أكثرها على الإطلاق ! إن (مايكل هارت)، الباحث الأمريكي صاحب كتاب (المائة الأوائل) الذي أمضى في تأليفه السنوات الطوال بحثاً عن أكثر مائة شخصية عالمية تأثيراً في التاريخ، أي فاعلية وإنجازاً، خلص من خلال اعتماده منظومة من المعايير الدقيقة، إلى أن محمداً بن عبد الله يقف في قمة هؤلاء المائة، ويحتل المركز الأول دون منافس على الإطلاق !
ذلك أنه إذا كان التسعة والتسعون الآخرون قد حققوا إنجازاً كبيراً فإنما كان ذلك محصوراً في جانب محدّد من جوانب الحياة. أما رسول الله فقد مضى لكي يجعل إنجازه يغطي مساحات الحياة جميعاً فيما لم يقدر عليه، ولن يقدر، إنسان ما في هذا العالم.
لا ريب أن الكثيرين قرأوا كتب السيرة النبوية وتدارسوها، ووجدوا كيف أنه كان يخطف النومة واللقمة لكي ما يلبث أن يستأنف جهده الموصول من أجل مزيد من العطاء.. ما الذي يمكن أن نقوله ونحن نراه يتجاوز الفراش الوثير، واللقمة الطيبة، ويمرّ على بيوته الشهر والشهران فلا توقد فيها نار لطعام -كما تحدثنا عائشة رضي الله عنها- سوى أنه ما كان يريد أن تأسره ملذات الدنيا حتى في أدنى مستوياتها، من أجل أن يظل متحرراً من الضرورات، قديراً على مواصلة العمل والعطاء حتى حافات الاحتمال؟!
أليس هو القائل : >من تساوى يوماه فهو مغبون<؟ إنه لا يريد لواحد من أتباعه أن يظل يومين متتالين على ما هو عليه.. أن يتحرك ويتغيّر ويوظف عامل الزمن من أجل التحقق بالمزيد من الإنجاز؟ أو ليس هو الذي علمنا أن نواصل السعي في الأرض وإعمارها حتى ونحن نستمع إلى نفير الصُّور : >إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألاّ تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر <..
العمل والإنجاز حتى اللحظة الأخيرة.. وكتاب الله يصف المؤمنين الجادّين بأنهم (يسارعون في الخيرات) وأنهم (لها سابقون) إننا هنا بصدد مفردتين تحملان دلالاتهما الزمنية : المسارعة والسبق.. وإن الخيرات ليست فقط صدقات تدفع وصلوات تؤدى، ولكنها كل فاعلية.. كل إنجاز يراد به وجه الله جلّ في علاه.
الحديث في الموضوع يطول ويتشعب إذا أراد أن يغطي المساحات المدهشة من الإنجاز الذي حققه النبي المعلم ويكفي أن نتذكر أنه وهو يتهيأ للرحيل عن الدنيا كان يجّهز جيش أسامة ويبعث به إلى فلسطين. أتراه كان يريد أن يقول بأن على اتباعه أن يواصلوا المسيرة الصعبة دونما أي توقف، وفي مواجهة كل التحديات، وأنهم بدون ذلك لن يكونوا أو يكون لهم موطئ قدم في هذا العالم؟
فلنكف إذن عن التباكي على حظوظنا وتخلّفنا.. لنكف عن تعليق أخطائنا وهزائمنا على مشاجب الآخرين، ولنتذكر كيف أن صحابة رسول الله لما هزموا في أحد وتساءلوا : لماذا؟ كان جواب القرآن قاطعا حاسما لا ريب فيه : {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم..}.
د. عماد الدين خليل