وأنا أحضنها بقوة وبحنان علني أعوضها عن حب أبوي تبدو معالم فقدانه في كل ملامحها، وجدتني بحسرة وغصة في الحلق أتبعها بنظراتي، وهي بالمحفظة البئيسة وراء ظهرها تيمم صوب حي الهراويين حيث تقطن بأحد براريكه المعزولة عن الحياة.. بل عن الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية..
كنت أحتاج إلى التوقف وإن عن بعد على المعالم التي أخرجت إلى الضياع فتاة في ريعان الشباب تنحني هامتها أمام سطوة البؤس الذي أحالها إلى مجرد هيكل عظمي لا معالم فيه للأنوثة..
كانت جغرافية سكناها متربة مغبرة ، بئيسة لا يليق بمأساوية تضاريسها إلا تلك العبارات الحصيفة للقاص المغربي إدريس الخوري في وصفه الدقيق لبؤر الفقر بالبيوت الواطئة بقصصه القصيرة..
وكانت الدور مسيجة بسور إسمنتي كوباء داهم العدوى.. وكانت هي كسيرة الخطوات منكسة الرأس مستسلمة لقدرها.. فهل كانت حقا مستسلمة لقدر الهوان المقسط؟؟..
………………………….
الأمر جلل يا قارئي، وما أفدح البشاعات التي يحدثها البشر بداخل البشر.. خلاصة القول قارئي، دعيت إلى إعدادية تأهيلية إسمها عبد القادر المازني بحي الهراويين بالدار البيضاء.
وكانت الداعية أستاذة فاضلة هالها حجم الجنوح بالمؤسسة التربوية التي تدرس بها، فقررت هي ومدير الإعدادية وهو بالمناسبة رجل وطني غيور، خوض تجربة الإصلاح بالاستماع إلى التلاميذ، ومشاركتهم ثقل الهموم التي أفضت بهم إلى سكة اللاعودة إلا أن يتغمدهم الله برحمته..
وجلست إليهم قارئي أحدثهم عن طامة المخدرات، وأنا أتطلع إلى سحناتهم، صبية وصبيات وأدركت بفجيعة أن المصاب عظيم.. فجزء من التلاميذ الحاضرين والتلميذات كانوا يتعاطون للمخدرات ومنهم من يدمن عليها، إضافة إلى الشيشا والخمر والتعاطي للجنس من أجل المال..
وكانوا على حافة الانهيار، فقد راودتهم أفكار سوداوية أودت بهم إلى محاولات انتحارية..
أما الصبية التي حدثتكم عنها في مقدمة هذا المقال فقد كانت هي الأكثر إحباطا وقد جربت كل أنواع الموت البطيء بلا جدوى..!!..
وقالت عن التلاميذ الآخرين بأنهم ليسوا بأسعد حالا منها فداخل كل أسرة من أسرهم مأساة تفكك لا يجبر.. تفكك هائل مصدره الفقر المدقع الذي يحيا فيه سكان البراريك.. ومن بين الحالات التي شدتني أكثر، حالة تلميذ لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، أسر لي بأنه مدمن، وسلم لي ورقة تلخص التلاطمات المتأججة بأعماقه..
قال أن بداخله وحشا كاسرا، وأنه يخاف من هذا الوحش إن انطلق، فلن يلجمه أحد ، وأنه يفكر في وضع حد لحياته!..
ورأيت طفلة صغيرة الملامح والعمر تشكو من آلام ممضة بجسدها وحين سألت عن مصدر ألمها قيل لي بأن الإدمان هو السبب!!…
تحدثت إليهم طويلا بكل التعاطف والود، والتقطت كل العتاب الذي حملته مداخلاتهم.. حول وضع مأساوي يكتوون بجائحته، وحيدين في كيثوهات تفتقد إلى أدنى مستويات العيش الكريم
قالوا أن فيلم كازانيكرا كان أصدق فيلم نقل معاناة مهمشي الدار البيضاء بكل شفافية ووضوح .. وأن واقعهم أشرس وأقسى من فيلم كازانيكرا..
(وإن كنت اعترضت على حجم الكلمات واللقطات الساقطة بداخله، والنهاية الدرامية التي تصور الشابين الجانحين في حالة هروب مستديم من الأمن في بداية الفيلم ونهايته، وهي نهاية تكرس القنوط، واللاحل، وشاطروني رأيي)..
……………………………
وأنا أودعهم استغرقني كل الخوف بل الهلع من أن يكون اليأس المفضي إلى الموت أسبق إلى اختطافهم..
لم يكن درب الجنوح يروقهم.. كانوا يدركون أن صراط الهلاك الأكيد يكمن وراء ممارساتهم تلك الانتحارية، لكن كل خلية بداخلهم كانت تهتف : لا حَلَّ لا خلاص إلا في الدوخات المتعاقبة..
حدثتهم عن رحمة المولى عز وجل وأسهبت في شحنهم بزاد المجاهدة للصعود إلى السطح الكريم..
وقلت لهم إني سأزورهم بين وقت وآخر.. وقلت لهم إن اعترافاتهم المكتوبة ولو بأسماء مستعارة ستكون مادة سنعمل على نشرها لتكون صرخة استغاثة.. جهدت قارئي بكل ما أوتيت من طاقة قليلة لجعلهم يتشبثون بحياة مقرفة، في غياب كل مقومات الحياة العزيزة..
في المساء حين عدت إلى الحاسوب استنطقت الانترنيت بتفصيل عن الموقع الجغرافي لمنطقة الهراويين لأقبض على بعض من ملامح جذور هذا التيه والضياع الذي يسكن نفسيات هذه الثلة من أبنائنا..
قال لي الحاسوب أن المنطقة كانت زراعية ومحسوبة على المدار القروي، وأن أهلها كانوا رعاة.. كما قال لي أنها أدخلت إلى المدار الحضري حديثا، وأن ساكنتها في جلهم من الشباب، وأن مساكنها “مجكرة” ففي كثير من بناياتها يستعاض عن السيما والياجور بالقصدير وقطع الكارتون.. وأن المساكن تداهم شتاء وعند سقوط المطر بالسيول والجرذان، وصيفا بالشمس الساخنة التي تحيل أعشاشهم إلى أفران يُشْوَوْن فيها بالتقسيط!!..
وأن البطالة مستشرية فيها، وأن مصدر رزق الكثير من الأسر من البيع المتجول.. وأن الأمية متفشية فيها، وأن هناك أوراشا لخدمة هذه المنطقة تنظمها مصالح المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تحت الرعاية الملكية التي كانت لها أياد بيضاء في المنطقة.. إضافة إلى مجهودات جبارة تقوم بها الجمعيات المدنية…
لكن مسحة التهميش والفقر لازالت سيدة الميدان، فالحمير والبغال لا زالت تجاور المساكن القصديرية!! وأكوام النفايات هي الأخرى لازالت ترتع قرب الدور آمنة مطمئنة.. والنساء لازلن في طوابير ينتظرن أمام الحنفيات دورهن في السقاية..
ولا زال المدار الحضري جد بعيد عن عيون التلاميذ.. أدركت ذلك من المسافة الطويلة جدا التي قطعتها لأصل إلى المؤسسة..
وإذا كان المدار الحضري جد بعيد عن عيونهم، فهو جد قريب من قلوبهم يرونه عبر شاشة التلفاز فاتِنًا مستعصيا على جيوب آبائهم وأمهاتهم.. وتقتلهم الحسرة والشعور القاسي بأنهم “ماكايعيشوش”، والحلُّ العاجلُ للإحساس بآدميتهم ولو توهما هو التعاطي للخمر وللمخدرات..
وبعد، أكتب إليكم قرائي لأن أبناء الهراويين كَكُلِّ أبناء هذا الوطن هم أبناؤنا.. إنهم كقطيع الغنم المكمم العيون يركضون إلى الهاوية ولا حيلة لهم ولا قوة، وإن مقالي هذا أعتبره بمثابة صرخة استغاثة إلى كل من يقرأ مقالي ، لنتعاون من أجل إنقاذ أبناء إعدادية عبد القادر المازني ، اتصلوا قرائي بالجمعيات الخيرية بجمعيات التأهيل والإنصات.. بالأطباء المتطوعين، بالفنانين، راسلوا المسؤولين.. راسلوا الجرائد.. استعينوا بعلاقات الإنترنيت.. أعينوني في جهدي هذا المقل لا تستصغروا عملكم فبقَطْرة وراء قطرة يفيض الوادي كما نقول نحن المغاربة..
لا تقولوا هذه الإعدادية غيض من فيض وما خفي من جنوح أعظم ، وأن كارثة المخدرات طوفانية.. لا تقنطوا من رحمة الله لقد خرج عابد من بني إسرائيل في أحد أسفاره فمرَّ على قرية جدباء لا أثر فيها لزرع، فرمى بضع بذور فيها واستمر في طريقه إلى القرية التي يقصدها، ومكث هناك زهاء عشر سنوات ثم عاد إلى مسكنه وفي طريقه مَرَّ بالقرية الأولى فوجدها خضراء يانعة، فسأل عن السر فقال له ساكنتها أن أحدَهُمْ رأى رجلا يمرُّ بقريتهم وينثر فيها بذورا أحيت بلدتهم الميتة ..
وقبل كل جهدكم هذا الطيب، لنتضرع إلى المولى ليتغمد أبناءنا برحمته فالدعاء مخ العبادة والله سبحانه سميع مجيب ..
أما عن مسؤولينا ومنتخبينا الذين يتاجرون في “حكرة الموتى بلا كفن” وعذاباتهم كلما حلت الانتخابات، والذين، بدأت فلول حملاتهم الانتخابية تغزو الأحياء الصفيحية وتشتري وُدَّ المحرومين ببناء قصور الرمال في قلوبهم، وتبذل الأموال الطائلة لشراء أصواتهم ، قبل أن يتنكر السادة المسؤولون جدا لمآسي سقوطهم في تطرفات لا حصر لها، آن تسرح جذورهم تحت كراسي اللا مسؤولية عفوا المسؤولية، فحسابهم أمام المولى عسير وأمام الوطن الذي ينتعشون من لعق جراحه كالذباب قريب، وحبل كذبهم قصير.