عبثا يحاول البعض إصلاح الحال قبل إصلاح العمل وعبثا يحاول إصلاح العمل قبل إصلاح الفهم، فلا إصلاح للعمل ومن ثم للحال إلا بإصلاح التصور والفهم، فهذه سنة مطردة محكمة تتعالى على الزمان والمكان ولا تتغير بتغير الظروف والأشخاص.
غير أن بعض الحركات الإصلاحية غفلت عن هذه السنة عن قصد أو بغير قصد، فراح بعضها ينفق الأموال والأوقات والجهود في تكفير الآخرين ونسبتهم إلى الفسق والبدعة والإلحاد لمجرد اختلاف في الرأي أو تباين في النهج الحركي، بدل إنفاقها في ما يغير تصور الناس للأمور ويهذب أخلاقهم وسلوكياتهم، وهو مايتطلب حتما وضع الخطط وحشد الجهود واختيار المناهج الكفيلة بتربية الأفراد على القيم والخصال الحميدة وصبغهم بالصبغة الربانية {ومن أحسن من الله صبغة}(البقرة) .
كما أن بعض هذه الحركات غلب على برامجها ومناهجها العمل السياسي، الذي استهلك كل طاقاتها البشرية والمالية، حتى أصبحت لا تعرف إلا بهذا المجال وكأنها أحزاب سياسية وليست حركات تربوية. وإذا تصفحت أدبياتها النظرية تعجب بأوراقها ورؤيتها التربوية ولكن شتان بين ما هو مسطور وحصيلة ذلك في الواقع.
والحقيقة الصادقة أنه لا إصلاح إلا بالإصلاح التربوي المستمر، والمتتبع لسيرة رسول الله يلمس ذلك بدون عناء، فقد استغرق فترة كبيرة في تربية المؤمنين به وبرسالته وتغيير ما بأنفسهم وتصحيح سلوكياتهم، فاقت شطر مدة البعثة بكاملها، فآتت أكلها ولم تظلم منه شيئا، إذ أخرجت للوجود نمادج فريدة لم يعرف لها مثيل، شخصيات مؤمنة فاعلة متميزة بربانيتها مقصدا ومنهجا وغاية.
وكان المنطلق الطبيعي- الذي ابتدأ به مربي الإنسانية ومعلمها الخير – والأساس الذي بنى عليه عمله التربوي الممنهج، الإصلاح العقدي وتصحيح تصورالخلق عن القضايا الكبرى الجوهرية والمصيرية. فما حقيقة العقيدة؟ وما أهميتها في عملية الإصلاح التربوي؟
1- العقيــدة وأهـميتـهـا فــــي منـهــج الإصــــلاح:
العقيدة مشتق من اعتقد يعتقد، وتدل على التصديق الجازم الذي لا يخالطه شك ولا ريب، ومدارها- كما أخبر النبي في حديث جبريل المشهور- على أركان ستة وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتندرج كلها في أصلين أساسين، هما: الإيمان بالله تعالى والإيمان بالآخرة.
والعقيدة في حقيقتها هي الركن الركين الذي إذا صلح صلح ما يبنى عليه من أعمال وإذا فسد فسدت السلوكيات المنبعثة منه، وهو ما عبر عنه من أوتي جوامع الكلام بقوله البليغ: >ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب<.
فالقلب هو محل العقيدة، ولا صلاح له إلا بصلاحها ووضوحها وارتكازها على أدلة قاطعة وبراهين ساطعة تنفي عنه الريب وتجنبه الشك وتجعله مطمئنا إلى حقائقها منجدبا بحب إلى مفاهيمها، قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}(محمد : 20) موجها إياه إلى ضرورة العلم اليقيني المؤِسس على الدليل العقلي والكوني بحقيقة الألوهية ومقتضياتها.
والعقيدة أيضا هي الكفيلة بتقديم التفسير الصحيح الشامل للوجود الإنساني والكوني، وأي انحراف فيها أو فساد يتبعه لا محالة آثار سيئة على الإنسان الفرد والإنسان الجماعة (وينشئ آتاره السيئة في حياة الجماعة الواقعية…وتصحيح العقيدة ينشئ آثاره الطيبة في صحة المشاعر وسلامتها، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها)(في ظلال القرآن، 4/2223 )
ونظرا لأهميتها خصها القرآن بمساحة واسعة، حيث تناولتها السور المكية وبسطت الكلام فيها باعتبارها المحور الأساسي الذي تدور في فلكه آياتها ذات النبرة القوية المزلزلة للرواسب الفاسدة، كما ربطت السور المدنية ما حفلت به من تشريعات بقيمة التقوى وبالجزاء الأخروي.
وقد قضى النبي في سبيل ترسيخ قيم العقيدة الصحيحة فترة طويلة، ولم ينتقل منها إلى غيرها- إلى التنظيم السياسي والتقعيد الاقتصادي وبناء أسس الدولة…- إلا بعد أن خلصها من شوائبها وصفاها مما علق بها من انحرافات، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مؤكدة هذه الحقيقة: >إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنا أبدا<(البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، 3/227)، وأكدها أيضا- بتعبير لطيف- السيد قطب في تفسيره البديع قائلا: (لم يبتدأ المنهج الإسلامي في علاج رذائل الجاهلية وانحرافاتها من هذه الرذائل والانحرافات، إنما بدأ من العقيدة، حتى إذا خلصت نفوسهم لله وأصبحوا لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى الله أو خيرة في أمر أو نهي إلا ما يختاره الله عندئذ بدأت التكاليف، وبدأت عملية تنقية رواسب الجاهلية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأخلاقية والسلوكية) (في ظلال القرآن، 2/973).
2- منهج القرآن في الإصلاح العقدي:
سلك القرآن في سبيل الإصلاح العقدي منهج التخلية والتحلية عبر عدة خطوات ومن خلال عدة قواعد، منها:
محاربة العقائد الفاسدة والبرهنة على فسادها: ومن أوجهها:
- نفي الشرك : قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون}(الأنبياء : 22).
- نفي ألوهية الأنبياء والرسل وتأكيد نسبة المعجزات التي جاؤوا بها إلى الباري عزوجل: قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم، قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الارض جميعا}(المائدة :17).
- نفي نسبة الألوهية إلى ما سوى الله تعالى من أصنام وأشجار وجن وإنس…: قال تعالى: {قل اتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا، والله هو السميع العليم}(المائدة : 76)، وقال أيضا: {ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون}(الزمر : 3).
- نفي الزوجة والولد عن الله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والارض، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}(الأنعام : 100- 101).
- الدعوة إلى العقيدة الصحيحة والعبادة الخالصة : فقد حث رب العالمين خلقه على الإيمان الصادق بوحدانيته وتنزيهه عن الشرك والولد والنظير، وعن كل الصور الشركية، قلبية كانت أو عملية، واعتبر التبرؤ من كل ذلك من شروط الفلاح والفوز بالجنة والنجاة من النار، قال عز وجل: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون}(الأنعام : 82) وأكد المصطفى هذه الحقيقة بما أوتي من جوامع الكلم، قال: >من لقي الله لم يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار<(رواه مسلم، شرح النووي، 2/93).
ولإقناع ذوي الألباب بوحدانية الباري وما يتصف به من صفات الجلال والكمال والجمال، وترسيخها في نفوس الخلائق، وجه القرآن الأنظار والعقول إلى دلائل قدرته وآثار رحمته وعجيب صنعه ودقة وبديع خلقه، من خلال التأمل في ملكوت السماوات والارض وتدبر الآيات المجسدة والآلاء المتجلية، قال تعالى: {إن في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون}(البقرة : 164).
كما ذم بشدة الذين يهملون ملكة عقولهم ولا يستخدمون أبصارهم وأسماعهم وأفئدتهم في معرفة عوالم الكون المحيطة بهم والنفاذ من خلالها إلى المعرفة الحقة بالإله الحق المستحق للعبادة بحق والتحقق من صفاته المنفرد بها عن سائر الخلق، قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس، لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون}(الأعراف : 179).
- النهي عن اعتماد الظن والتخمين والتقليد في المسائل الاعتقادية: اشترط الإسلام الدليل اليقيني الذي يقتنع به العقل ويطمئن له القلب في ما يعتنقه الإنسان من تصورات ويؤمن به من معتقدات بعيدا عن الشك والتخمين حتى ولو كان يسيرا وعن تقليد الآباء والكبراء والعامة، قال تعالى لسيد الخلق، ومنه إلى كافة الناس: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}(محمد : 19) فكان الأمر الإلهي بالعلم التام وليس بالتصديق القلبي فقط.
والشواهد على هذه القاعدة المنهجية وصلت حد التواتر من الكثرة، منها قوله تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس}(النجم، 23) {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}(البقرة : 170) {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}(الزخرف : 23).
فما يمكن استقراؤه من المنهج القرآني في التربية على العقيدة الصحيحة هو أن التخلية من الرواسب الفاسدة مقدم على التحلية بالفضائل ، وأن الإقناع شرط لتحققها خلاف ما ادعاه بعض المتصوفة بقولهم: >المربى عند المربي كالميت بين يدي مغسله<.
3- محاضن الإصلاح العقدي وتقويته:
إن المنهج التربوي الذي سلكه النبي في تربية ذلك الجيل الفريد الذي صنعه بيديه بتوفيق من الله تعالى -فكان بحق نموذجا يحتذى به في كل عصر ومصر، جيل ضم شخصيات ربانية عرفت ربها فآثرت رضاه على أهوائها وهفت أرواحها للقائه، كما عرفت حقيقة الآخرة فآثرتها على الدنيا الفانية فزهدت عن إشباع حظوظ النفس مقابل النعيم الخالص السرمدي- لهو المنهج الكفيل بإعادة الإنسان الصالح المصلح، إنسان الحضارة والدين معا.
ومن أهم الوسائل التربوية المعتمدة في المنهج النبوي : المجالس القرآنية، حيث كان معلم البشريه يجتمع مع صحابته الكرام في دار الأرقم بن أبي الأرقم لغرض واحد، ألا وهو تعليمهم القرآن ومدارسته جماعيا بنية امتثال ما فيه من عمل وتزكية النفس بأنواره وصقل القلب ومداواته بدوائه وطمأنة النفس وإحيائها بأسراره.
ونظرا لأهمية هذه الوسيلة ومركزيتها في العملية التربوية، تضافرت الأحاديث النبوية المحفزة للمؤمنين عبر الأجيال على ضرورة الأخذ والاستمساك بها، وعدم إغفالها مهما تطورت الوسائل التربوية، ومنها: الحديث المشهور الذي رواه أبو هريرة ] مرفوعا: >ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<(رواه مسلم)، بالإضافة إلى الحديث المتفق عليه والذي رواه أيضا أبو هريرة مرفوعا إلى النبي ، قال: >إن لله ملائكة سياحين في الأرض، فضلا عن كُتّابِ الناس، يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون : يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون لو رأوك كانوا لك أشد عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر تسبيحا. فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة. فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمما يتعوذون؟ فيقولون: من النار. فيقول الله: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة. فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة. فيقول: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم<.
وما تجب الإشارة إليه، أن هذه المجالس لا يمكن أن تؤدي دورها إلا إذا سارت وفق المنهج القرآني الذي رسمته الآية129 من سورة البقرة، قال تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}، وإنه لمنهج رباني قائم أساسا على تلاوة القرآن تلاوة مؤثرة تنفذ إلى الروح فتحييها، وعلى تعلم أحكامه وحكمه، صغيرها قبل كبيرها، تعلما ينتج عملا وتطبيقا فيثمر رقيا للروح في معراجها الإيماني….
حقا لا يصلح آخر هذا الأمر إلى بما صلح به أوله، وحتما لن ينصلح الحال إلا بالمنهج النبوي المسدد بالوحي، ولا مناص من البدء بالإصلاح التربوي المرتكز على العقيدة الصحيحة، بالاعتماد أساسا على المجالس القرآنية النورانية.
د. إبراهيم بن البو