أحقا صالحته؟! أحقا صالحت نفسي بعد كل هذا العمر؟!
ترى… كيف صالحته… وقد كبرت معي المرارة كالشوكة بداخلي… غرسها في منذ أن فتحت عيني في هذه الدنيا؟!
كنت كلما هرولت إليه ككل الأطفال مع آبائهم، صدني… عنفني… وإخوتي منه مُدَلّلين في حضنه.. يرتدون أبهى الحلل في الأعياد، وأنا بكسوة باهتة، مرقعة لا تبرح جسدي النحيف… وأنا للحرمان والبرد والجوع. آه ما أحر الجوع!!
كنت أشم رائحة الشواء المنبعثة من بيته الملاصق لنا.. فأبكي… تحضنني أمي، وتَعِدُنِي باللحم المشوي في العيد الكبير… وأي عيد؟! كنت أخجل من الخروج أمام الأطفال بملابس العيد…!
هجرني أبي وإخوتي وأمي… ولم يعد يعرف سوى زوجته الثانية وأبنائه مناه.. كرهته… كرهت إخوتي منه… كرهت كل الأطفال السعداء مع آبائهم…!
كان يمنعني من مجرد الاقتراب من إخوتي منه للعب معه… مرضت، فلم يعدني… جعت، فلم يطعمني… بردت، فلم يكسني… فكيف أحبه؟!
انقطعت عن الدراسة، لتعثري فيها، ولأنه رفض الإنفاق علي… عملت عملا متواضعاً، لأعول نفسي وأمي المريضة…!
استفززته مراراً، علني أستثير أبوته وغيرته، فيهتم بي… فازداد لامبالاة تجاهي… تماديت في انحرافي أمامه انتقاماً منه… فلم تتحرك فيه أي شعرة..
بعد هذا العمر… راجعت نفسي، فوجدتني -بعد فوات الأوان- قد انتقمت من نفسي… تقاعدت بلا بيت، ولا زوج، ولا أبناء… وساءلت نفسي بحرقة : ترى، ماذا قدمت لحياتي؟!
ياللغباوة، انتقمت من نفسي.. أما أبي، فمازال، كما هو، لا مبالياً بي…!
لا أدري كيف حملته -كالمجنونة- أطوف به على الأطباء، بعد أن مرض مرضاً شديداً، وقد فقد غناه، وصار فقيراً، وتخلى عنه كل أبنائه الذين كان يدللهم وأمهم؟!
لم أستطع رؤيته وحيدا، مريضا، محروما، جائعاً… لأنني قد جربت مرارة ذلك حين طفولتي… أشفقت لحاله، فمهما كا ن، فهو أبي.. لم يقم بواجبه تجاهي.. أما أنا، فلا أستطيع التخلي عنه والتملص من واجبي تجاهه…
لم أنْسَ القهر الذي عشته.. لكنني قررت أن أصالح نفسي قبل أن أصالحه، وأعفو عنه، عل الله عز وجل يعفو عني وعنا جميعا، إنه عفو كريم…!