عباد الله : إذا كان لأحدكم بستان يسقيه كلَّه، ثم حَبس الماءَ عن بعضه، ماذا يقع للجهة التي حُرمت الماء؟ وإذا حُبس الدم في جزء من الجسد، ومنع من الوصول إلى الأجزاء الأخرى، ماذا يحدث للجسد كله، وإذا أدخِل إنسان غرفة، ثم أُحكم إغلاقُها، ثم أُفرغت تماماً من الهواء الذي يصلح للتنفس ماذا يحدث لذلك الإنسان؟
ضربت لكم أيها الأحباب هذه الأمثلة لأنتقل بكم إلى موضوع هو في نظر الشرع أوسع خطراً وأعظم سوءاً على أمة الإسلام، وما تلك الأمثلة إلا قطرات من سمه العارم، ذلك الموضوع هو الحدود البرية والبحرية التي أقامها الاستعمار بين المسلمين ليقطع أوصالهم، ويمزق جسدهم، ويشتت وحدتهم. ولقد قال الرسول : >مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<(رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير ])، ولمسلم : >المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشكتى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله<.
فالرسول أخبر أن المومنين جسد واحد، والجسد الواحد يقوم بعقل واحد، وروح واحدة، ونفس واحدة، وإذا وقع الاعتداء على عضو واحد من الجسد تضرر وتأذى به جميع الأعضاء الأخرى، والقرآن الكريم يخبر بهذه الوحدة فيقول {وأن هذه أمتكم أمة واحدة}(المومنون : 53).
والكفار عامة ومفكروهم خاصة فهموا حقيقة الوحدة التي بناها الإسلام، وتحققوا من آثار هذه الوحدة حينما كانت قائمة، فدبروا لتدميرها، واتفقوا على تمزيقها، وهم اليوم حريصون أشد الحرص على بقاء جسد المومنين مقطعاً، وكأن حكم الله بتقطيع اليهود في الأرض انقلب على وحدة المسلمين.
عباد الله : إن الحدود الفاصلة بين المسلمين تمنع وصول الحاجات المادية، كالصناعة والتجارة والإنتاج الزراعي والغابوي والبحري والماء والكهرباء، وكلّ الطاقات ومختلف الميولات، وتمنع التواصل التاريخي بكل حلقاته العلمية والفكرية والتربوية والدعوية، وتمنع نقل التراث المشترك، وتطفئ مصابيح الوحي، وتوقف الذين يبلغون رسالات الله، وتحرق فروع الرحم، الذي تكاثفت جذوره في كل البقاع وتجفف رُوَاء المشاعر والعواطف، و تُخمد الروح الجماعية وتنمي الأنانية والفردية، وتشعل لهيب النزاعات والخلافات الماضية، وتصطنع الأزمات، وتعمق الفجوات في وجه محاولات التقارب والتلاقي، والتحاب والتآلف، وهناك أيها الأحباب ويلات أخرى أنتجتها الحدود الاستعمارية المشؤومة :
1- منها تضييق الأرض الواسعة على المسلمين، والله تعالى يقول : {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون}(العنكبوت : 56) فإذا جَمعت مساحات أراضي المسلمين فقط، فهي أرض واسعة، ولكن الحدود ضيقتها.
2- ومنها حبس التعاون، وقتلُ روح المنافسة والمبادرة.
3- ومنها تقزيم شخصية كل مسلم وتصغيرها، فالفرد المسلم يشعر بالدونية والهوان أمام الفرد من الدول العظمى.
4- ومنها القصور والعجز في حصيلة العلوم الدينية والدنيوية.
5- ومنها خضوع المسلم وثقتُه ورضاه بالعدو، وحذره وخوفه من أخيه المسلم، أو استكباره واستعلاؤه عليه.
6- ومنها زَهو واغترار كل إقليم مسلم بما لديه من معادن وثروات طبيعية وتصرفُه فيها كأنها ملكه الخاص، بينما هي أموال وثروات ومعادن لكل مسلم الحق فيها.
7- ومنها فرار المواهب العلمية المبدعة إلى بلدان الغنى والثراء، وحرمان البلدان المتوسطة والفقيرة من طاقاتها.
8- ومنها حرمان البلدان الإسلامية من الرحلات العُمالية والصناعية والعلمية والسياحية والفنية…
9- ومنها أن الكفار بعدما قسموا الجسد الإسلامي ووزعوه إرباً إرباً، جعلوا من المسلمين أنفسهم ومن أراضيهم حراساً وأسلاكاً شائكة تحمي بلاد الكفر، وإنسان الشرك.
10- ومنها أن خيرات المسلمين براً وبحراً لا يسمح لها بالمرور عبر الحدود، ولو للمرضى والجرحى والجائعين واليتامى والعجزة، وإنما تمرَّرُ بسخاء للكفار المترفين يتنعمون بها، وأحيانا يتكرمون بها ويجودون، ليكونوا رحماء بالبؤساء، أما بؤساء المسلمين فلا نصيب لهم.
11- ومنها إبداع كل عوامل القطيعة والتدابر والتباغض وتشجيعُها ومتابعة مراحلها، وهذه هي الحالقة التي حذر الرسول الكريم منها، عن أبي الدرداء ] قال : قال رسول الله : >ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى، قال : اصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة< وفي رواية : >لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين<(رواه أحمد وأبي داود والترمذي وقال حديث صحيح)، فهل ترون أن حكم الشرع في الحدود الأرضية يكون أقل من التحريم؟ وإذا كان الشرع يُجرّم من ألحَقَ ضرراً وأذًى بفرد واحد، فبماذا يحكُم على من جَرَّ كل أنواع الأذى على كل أجيال المسلمين؟ وبماذا يحكم الشرع على كافة المسلمين الخاضعين لهذه الحدود الإجرامية؟
اللهم ابعث في قلوب المسلمين روح الثقة بك، والاعتزاز بدينك، والاغتناء بعطائك، والاحتماء بعزك والرضى بقدرك، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
وبعد : لقد عرفنا بعضَ أهداف الكفار من تمزيق وحدة المسلمين وتقسيم أراضيهم، وعرفنا كذلك أنهم يخشون النزاعات بينهم، فكثرة الحروب التي طحنتهم وشدة المحن التي فركتهم جعلتهم يتوحدون ويتآزرون فيما يبدو لنا، لكن الله تعالى يكشف لنا من حقائقهم وطبائعهم ما يكرهون أن نطلع عليه، قال تعالى : {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى}(الحشر : 14) وهذا يعني أن توحدهم قائم على المصالح المادية، وأن توحد المسلمين إنما يقوم -عندما يقوم- على عقيدة التوحيد الطاهرة المتينة.
أيها الأحباب إن الذي يعرف حكم الشرع في الحدود الأرضية ويجِدُّ في إزالتها وإبطالها ورأبِ الصدع، ولم الشّمل بين أبناء الملة الواحدة، والتراب الواحد، والرحم الواحد، والدم الواحد، ويتيح الفرص ويفتح ذراعيه، ويُوسع صدره، ويصغي إلى نداء القرآن، الداعي إلى وحدة أهل الإيمان، إنه لطيِّبُ النفس، كريم الطبع، عظيم المروءة نقيُّ السريرة، متواضع في عز، لين في شرف، حكيم الرأي، سديد الفكر، يحب الخير لكل الناس، وإن له من الثواب بمقدار ما سينال المسلمين حالا ومستقبلا من خير وبركة، وعزة وقوة برفع الحدود، وفتح كل سبل الترابط والتواصل والتراحم بين الآباء والأبناء، والإخوة والأعمام، والأحباب والأقارب، إنه هو العامل بمقتضى قوله تعالى : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى..}(الحجرات : 13) إنه هو المتفهم المدرك لسعة رحمة الله تعالى في قوله للرسول : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}(الأنبياء : 106)، إنه المبغض المجتنب للذين يقول تعالى فيهم {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار}(الرعد : 26).
اللهم ألهم المسلمين رشدهم وقهم شرور أنفسهم، آمين….