كلّما ازداد الإنسان علماً ومعرفة وإحاطة بأسرار الكون وقواه، ازداد حيرة وقلقاً وتصنيعاً لآلات الخراب والدمار. والمظلومون أكثر بكثير من الظالمين.. وهم لم يألوا جهداً في مقاومة الظلم، ولكن قوّة الظلم تسحق وتبيد آلاف وملايين البشر… أمن العقلانية أن يتساوى الظالم والمظلوم الذي قاوم وتمّ سحقه؟ ألا يكفي هذا مبّرراً أخلاقياً وعقلياً ومنطقياً لوجود حساب “آخر” يتولاه عادل مطلق؟ ألا يكفي ذلك لعقلنة الإيمان بيوم القيامة وعدالة الحساب الإلهي؟
نعم وبكل تأكيد .. وإلاّ أصبحت الحياة عبثاً لا معنى له ولا جدوى من ورائه.. ليس ظلم الإنسان للإنسان فقط، ولا تسلّط الطواغيت على المستضعفين في الأرض فقط، ولكن ظلم الإنسان للحقيقة الكونية، التي تعكس وتؤكد بنبضها ومعطياتها كافة، وجود الله سبحانه وحاكميته وربوبيته ووحدانيته.
إن القرآن الكريم يسمّي الشرك : الظلم العظيم، لأنه الكذبة الكبرى في تاريخ البشرية.. إنكار مترع بالصفاقة واللا أخلاقية والغباء، للحقيقة الأم في الوجود على امتداده في الزمن والمكان.. من الأزل إلى الأبدية، ومن الأرض المنحسرة إلى ساحات الكون الكبير.
وتجيء الأديان، التي يختمها الإسلام ويتوجّها باعتباره منهج العمل الشامل والأخير لمسيرة الإنسان على الصراط وتحريره ، ولتجاوز السبل المعوجة التي تقوده إلى التيه والدمار.. تجيء لكي تمارس دوراً مركباً لمجابهة الظلم بأصنافه كافة، وردّ الأمور إلى نصابها، وإحقاق الحق ، وإزهاق الباطل.
الطبقة الأولى من هذا الدور تتمثل في محاولة “الدين” صياغة عالم عادل لا ظالم فيه ولا مظلوم. فلو أننا عدنا لتفحّص الجهود التي بذلها الأنبياء جميعاً (عليهم أفضل الصلاة والسلام) فاننا سنجدها تتمحور عند هذا الهدف العزيز : ملاحقة الظلم بكل صيغه وأنماطه ، وإنصاف المظلومين من الظالمين.
وتكون البداية دائماً.. يكون المنطلق وحجر الزاوية شهادة (لا إله إلاّ الله) وتشديد النكير على أكذوبة الشرك وما تتمخض عنه بالضرورة من طاغوتيات تأخذ برقاب المستضعفين وتلحق بهم صنوف الابتزاز والإذلال والهوان.
من أجل هذا ما كان بمقدور الزعامات الظالمة كافة قبول (الدين) والتسليم بدعوات الأنبياء، كما لم يكن بمقدورها السماح للأتباع بالتحرّر من ربوبيتها المدّعاة والانخراط في صف هذه الدعوات التي جاءت لكي تفك الارتباط بينها وبين السادة بشهادة (لا إله إلاّ الله) التي هي شهادة التحرير والعدل والخلاص.
ولو أن الأمر لم يكن كذلك، ما استشاطت الزعامات الجائرة غضباً على الأنبياء وهم ما طلبوا منها مالاً أو كلّفوها بمشقة، وإنما دعوها وأتباعها إلى كلمة الله، وكلمة الله تعني الشهادة بوحدانيته وربوبيته وحاكميته. ومعنى هذا أن الطواغيت سيخسرون منذ الجولة الأولى مواقعهم الفوقية التي أتاحت لهم التسلّط في الأرض واستعباد المستضعفين وإرغامهم على تحويل حياتهم إلى سخرة موصولة في خدمة الطاغوت.. وإلاّ فهي الملاحقة والأذى وتشديد النكير.. والظلم الذي يأخذ ألف شكل وشكل ولكنه يتمركز عند معنى واحد هو أساس كل المظالم والويلات : أن يظل السادة سادة والعبيد عبيدا!
لكن هذا الذي ينفذّه الأنبياء (عليهم السلام) عبر سني الدعوة والكدح والاضطهاد والمعاناة، لصياغة العالم العادل الذي لا ظالم فيه ولا مظلوم، وتحرير الإنسان من كل صيغ الظلم والقهر والابتزاز، ليس سوى أحد وجوه الصورة أو الحالة المركبة.. وتظل هناك وجوه أو طبقات أخرى، يعلو بعضها بعضاً ويتصل بعضها ببعض، انتهاء بيوم الحساب الذي لن يفلت أحد كائناً من كان من الحضور في محاكمته الكبرى.
فإذا كانت الحياة الدنيا قد سمحت لهذا الطاغوت أو ذاك بالإفلات.. إذا كانت طبيعة التجربة التاريخية المنقوصة، المترعة بالثقوب والممرات، قد أتاحت لهذه القيادة الظالمة أو تلك أن تنجو من طائلة العقاب، ومكنت هذا المجرم أو ذاك من المناورة والاحتيال وعدم الوقوع في دائرة القصاص، فإن يوم الحساب سيكون له شأن آخر.. إنه بمعنى من المعاني الصيغة المكتملة للقصاص.. المحاكمة التي تنطوي كل حيثياتها وحلقاتها على العدل المطلق حيث الحضور الإلهي الذي لا يحابي ولا يميل ولا يداجي.. وحاشاه..
وحينذاك تكتمل الصورة، وتأخذ خطوط الرحلة البشرية بتفاصيلها كافة، ملامحها النهائية، فإذا بها تتكشف في نهاية الأمر عن المغزى والجدوى.
إن يوم الحساب، فضلاً عن أنه حقيقة كونية بحدّ ذاتها، فإنه يحمل مغزى أخلاقياً بخصوص الوضع البشري في العالم، والذي يخترق بالظلم فلا يتمكن المظلومون، بسبب طبيعة الحالة التاريخية ، من الردّ .. وتجيء إرادة الله في يوم الفصل هذا واسمه يدلّ عليه- لكي تلوي أعناق الطواغيت، وتكسر أيديهم، وتمرّغ أنوفهم في نار جهنمّ ورمادها!