د. محمد البويسفي
جاء العدوان على غزة بعد انقضاء الهدنة، التي لم يستفد منها الفلسطينيون شيئا، غير الحصار والتجويع، وتحويل غزة إلى أكبر سجن في العالم، في عقاب جماعي ممنوع في كل الشرائع الدولية. في هذا الحصار راهن العدوالصهيوني على سقوط حماس وانفضاض الشعب الفلسطيني من حولها، لكن النتيجة كانت مخيبة لقصده الدنيء، فكان وقف الهدنة وعدم تجديدها من جهة حماس التي رفضت إعطاء هدنة مجانية بدون أي مقابل، ذريعة لشن أبشع عدوان منذ حرب 67. وكان اعتماد الصهاينة لعنصر المفاجأة لإرباك حماس ومباغتتها، حيث قبل الحرب بقليل صرح الصهاينة في تركيا وغيرها ألا حرب في الأفق، وفُتح معبر رفح عشية العدوان، وكأن الأمور تسير نحوالانفراج..
فكان العدوان مفاجئا ومدمرا، خلف في يومه الأول أكثر من مئتي شهيد، وصور الدمار والقتلى والجرحى من البشاعة بمكان، والغاية من وراء الإفراط في استعمال القوة في وقت وجيز هوالتأثير النفسي والإرباك الميداني لحماس خاصة.
وذلك تمهيدا للانتقال إلى المرحلة الثانية وهي الزحف البري لدخول غزة..
لقد بدت حماس في الأول مصدومة، فزعة، مرتبكة..، لكنها تداركت الأمر في أسرع وقت، وأعادت كتائب عز الدين القسام الانتشار عبر ربوع قطاع غزة، في الوقت الذي كانت فيه المخابرات الصهيونية تجمع صور المواقع المستهدفة، وإعادة تركيب خطة القصف والاستهداف من جديد، مما أربك قادة الجيش الصهيوني..، أعادت كتائب عز الدين القسام الانتشار وأحكمت سيطرتها ومراقبتها لغزة، بعد أن أخفت قادتها وكوادرها المستهدفين وأمنت أماكنهم.
استعدت لاقتحام بري صهيوني محتمل، وإذا ما اقتحم قطاع غزة، فسوف يتكبد خسائر مهولة لاستعداد المقاومة، بعد أن تدربت على ذلك من قبل، مما جعل إعادة انتشارها بعد مباغتة العدولها سهلة. ثم لطبيعة قطاع غزة ذي الكثافة السكانية العالية وكثرة المخيمات، وجاهزية الشعب الغزي لحرب العصابات وحرب الشوارع.
ورغم التغطية الجوية للجيش الصهيوني ومراقبته الدقيقة لقطاع غزة، إلا أن كتائب عز الدين القسام استطاعت أن تقصف المستوطنات، وتصيب أهدافاً دقيقة في العمق الصهيوني، وتٌوصل الرعب إلى قلب الوزراء الصهاينة فينبطحون أرضا خوفا من صواريخ المقاومة.
وفي سيناريوشبيه بحرب صيف 2006 التي شنها الجيش الصهيوني على حزب الله، لم يستطع الصهاينة إيقاف صورايخ “كرا”د و”القسام”، وعجز عن تحديد مواقع المنصات الصاروخية المتنقلة أوالثابتة. ليس هذا فقط، بل المفاجأة الكبرى هي استخدام المقاومة لصواريخ متطورة لأول مرة وصل مداها إلى أكثر من خمسة وأربعين كيلومترا، وجاء في بيانات للمقاومة أنها تتوفر على صواريخ أخرى أكثر تطورا يصل مداها إلى أكثر من ستين كيلومترا في العمق الصهيوني، وهذا يعني أن سبعين في المئة من الشعب الصهيوني مستهدف، ولا يحميه شيء من صواريخ المقاومة، حتى غدت الحياة في المدن والمستوطنات القريبة من غزة شبه منعدمة، والدراسة متوقفة إلى حين، والناس تلجا إلى المخابئ ، وصافرات الإنذار لا تتوقف..، لقد عجز الجيش الصهيوني عن توفير الأمن لشعبه، وصرنا نشاهد صور البيوت المدمرة، والقتلى والجرحى والمصابين كما نشاهدها في غزة، في صورة من صور توازن الرهب حققته المقاومة بصواريخها المباركة.
نعم لا مجال للمقارنة بين القوات الصهيونية وقوة المقاومة، ولا بين أثر صواريخ المقاومة..، لكن هذه الحرب ليست تقليدية: يتواجه فيها جيشان نظاميان..، لقد ولى عهد حسم المعارك في ستة أيام ومقولة: الجيش الذي لا يقهر.
الجيش الصهيوني أمام حرب استنزاف طويلة الأمد، وأمام مقاومة منظمة لها عمق شعبي يستحيل استئصاله، وطبيعة المجتمع الصهيوني الذي هوعبارة عن قطع غير متجانسة، تجمعت من كل أطياف الدنيا، واستوطنت أرضا اغتُصبت من أهلها اغتصابا، لن تصمد دولة كهذه قائمة على الباطل، أمام مقاومة مشروعة، وأمام حرب عصابات طويلة الأمد لها بعد شعبي: محلي وإقليمي، لذلك وعبر كل الحروب التي خاضها الصهاينة، راهنوا فيها على حسم المعارك في أقصر مدة ممكنة.
لقد أصبح الصهاينة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما وقف الحرب وفتح معبر رفح والدخول في مفاوضات مع حماس والاعتراف بها كفاعل رئيس في القضية الفلسطينية وفي التسويات المقبلة، وإما استمرار القصف ثم الدخول البري لقطاع غزة عبر مراحل.
توقيف الحرب كان مستبعدا، لكن الآن وبعد الصمود الأسطوري للمقاومة ومحافظتها على كامل قواها التنظيمية والعسكرية، وفشل الصهاينة في تحقيق أهدافهم من خلال المرحلة الجوية من عدوانهم، وانتقالهم إلى الجزء الأول من المرحلة البرية، فيبقى هذا الاحتمال واردا، لكنه يعني فشل الصهاينة في الحرب، وعدم تحقيق أهدافها التي جمعتها في: إعادة هيبة جيشها وقوة ردعها بعد أن تحطمت على صخرة لبنان، ووقف صواريخ المقاومة المنطلقة من غزة، ثم القضاء على حماس باعتبارها عقبة في وجه أي تسوية سياسية على المقاس الصهيوني،..
وهناك احتمال هواستمرار القصف والانتقال إلى الجزء الثاني من الحرب البرية ودخول القطاع، ومعه سيدخل الصهاينة في الحسابات الضيقة جدا ، وفي مغامرة غير محسوبة، لأن المقاومة أعدت العدة لذلك، وسارت في الطريق الصحيح لحل القضية الفلسطينية، وستدخل الأنظمة العربية في ورطة كبيرة، فالحكام العرب يطالبون” أولمرت” بحسم المعركة في أقرب وقت، خاصة وأن الشارع العربي في غليان كبير، ويمارس ضغوطا كبيرة على الحكام العرب من أجل التحرك وإيقاف العدوان.