ابتداء .. يجب تجاوز فكرة أن ذهاب قرن ومجيء قرن جديد ينطوي بالضرورة على تغيّرات نوعية حاسمة .. نعم .. هذا ممكن، بل هو مؤكد في المديات الزمنية المتطاولة نسبياً والتي قد تستغرق العقود العديدة، ولكن ليس بالضرورة في لحظات الانتقال الفاصلة بين قرن وقرن.
ثمة مسألة أخرى يفضّل تجاوزها في التعامل مع الموضوع : التفاؤل الزائد أو التشاؤم الزائد.. بمعنى الرؤية الأحادية التي لا تتعامل سوى مع جانب محدّد من المنظور، ذلك أن الخبرة التاريخية التي تنطوي على بعدها الحضاري، إنما هي خبرة حياة، وهي تتضمن -بالتالي- الصواب والخطأ، الأبيض والأسود، الإيجاب والسلب، والمطلوب ـ إذن ـ بعد تفحّص الجانبين، هو تضييق الخناق على المساحات الداكنة، وبذل جهد استثنائي لفتح الطريق إلى المعطيات المضيئة، إذا أردنا أن يكون لنا عبر الزمن القادم مكان على الخارطة الحضارية.
مهما يكن من أمر فإن مما يبعث على الأمل، تزايد الوعي بالدور الحضاري الذي يفترض أن تمارسه الشعوب الإسلامية عبر العقود القادمة.. ما يسميّه البعض بالمشروع أو البديل الحضاري الذي ازدادت أهميته وضرورته بعد تساقط المشاريع والمذاهب والخبرات الوضعية والدينية المحرفة في العالم المعاصر.
والنخب الإسلامية لا تألو اليوم جهداً في تعميق خطوط هذا المشروع، ووضع ركائزه الأساسية، ورسم تنظيراته ومنطلقاته التصوّرية، وتحديد أهدافه. وثمة مؤسسات ومعاهد تساهم في العمل وبعضها يتخصّص فيه. وينتج عن هذا قدر طيّب من المعطيات الفكرية التي لم تكن إلى وقت قريب بهذا القدر من الخصب والوضوح.
ولكن يخشى، في موازاة هذا، من جملة أمور : كأن يكون هناك ميل في الميزان لصالح التنظيرات على حساب التنفيذ العملي، أو المبالغة في الاستسلام للآمال التي نجمت عن سقوط جلّ البدائل المضادة للمشروع الإسلامي، وتهافتها وعجزها عن تقديم ما يناسب حجم “الإنسان” الذي ضيّعه الوضّاعون منذ أن قبل بخرافة الانفصال عن كلمة الله ومنهجه في صياغة الحياة.
إذا استطعنا أن نشمّر عن ساعد الجد، كلّ لما يسّره الله له، وفي الدائرة التي يتفوق فيها.. إذا قدرنا على أن نضع قبالة وعينا باللحظة التاريخية، الآية الكريمة التي تقول : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءً يجز به} وجهدنا من أجل تحويل الأمنية إلى فعل متحقّق في الزمن والمكان، أي في التاريخ، فإننا سنخطو باتجاه عالم يكون لنا في خرائطه الحضارية مكان.
وبغض النظر عما يقوله حشد كبير من المفكرين الغربيين من مثل ليوبولد فايس وكويلر يونغ وكارودي ومارسيل بوازار وسيكريد هونكه وفاكليري وسارتون وتوينبي ومونتكمري وات وروم لاندو.. وغيرهم، بخصوص المشاركة الإسلامية المؤكدة في المستقبل، ودور الإسلام في صياغة أو إعادة صياغة المصير، فإن مما لا ريب فيه أن الجهد الإسلامي نفسه سيمنح الجواب، وسيؤكد أو ينفي تلك الاستنتاجات القيّمة التي خلص إليها المفكرون الغربيون المشار إليهم.
ودائماً كان العثور على الدور وتأكيد الذات، ليس هدية أو منحة يقدمها الآخر، بل هي فعل دؤوب وجهد قاسٍ على كل الجبهات يمارسها أولئك الذين يريدون أن يكون لهم حضور على خرائط العالم.