د. عبد الله بلحاج
في رحلة عبر القطار من مرسليا جنوب فرنسا إلى باريس في الشمال، جرى بيني وبين مجموعة من الفرنسيين حوار هادئ حول عدد من القضايا ذات الصلة بالإسلام وخاصة تعدد الزوجات.
كنت المغربي الوحيد مع خمسة من الفرنسيين في المقصورة، لكنهم لم يشاركوا جميعا بنَفَس واحدٍ في الحوار، كانت تتقدهمم سيدة متزوجة في مقتبل العمر، ذات حظ جيد من الثقافة والعلم، وتشتغل “مساعدة اجتماعية” ولها اطلاع على ثقافات العديد من الشعوب وعاداتهم، لذلك تزعمت أفراد المجموعة من أبناء وطنها في الحوار.
كانت بداية الحوار أن ذكرت أنها زارت المغرب وتعرف الشيء الكثير عن الإسلام، وتعتقد أن مبادئه وتشريعاته سامية وإنسانية، إلا فيما يتعلق بعدد من الأمور التي لم تستسغها، ولم تر أنها مناسبة ولا مقبولة بالنسبة للحضارة الحديثة التي تجاوزت كل ما يتعلق ببؤس المرأة واحتقارها وتهميشها واعتبارها مخلوقا دون مستوى الرجال.
أحبّت أن تعرف وجهة نظري في هذه الأمور، أو ربما لتعرف أكثر عنها، وكانت القضية الكبرى المقلقة لها هي قضية التعدد : زواج الرجل الواحد بأكثر من امرأة، سألتها ماذا تعرف عن التعدد من الوجهة الشرعية الإسلامية فأجابت أن ما تعرفه أن الرجل المسلم له الحق في أن يتزوج أربع نساء، في حين ليس للمرأة هذا الحق.
قلت لها : إن القضية ليست منحصرة في أن الرجل له الحق والمرأة ليس لها ذلك، ولكن القضية هي أكثر من ذلك بكثير، لأن المسألة لها أبعاد اجتماعية واقتصادية فضلا عن الأبعاد الذاتية والنفسية.
لكن هبي أن المسألة بهذه البساطة : >للرجل الحق، والمرأة ليس لها هذا الحق<.. ثم سألتها : بحكم مهنتك وبحكم ثقافتك وسعة اطلاعك كم نسبة النساء للرجال في فرنسا، ثم في العالم؟ أجابتني نسيت بالضبط لكن الذي أذكره هو أن عدد النساء في العديد من الدول أكبر من عدد الرجال، قلت لها إذن لو تصورنا أن كل رجل واحد تزوج امرأة واحدة، سيبقى العديد من النساء دون أزواج، قالت : بالتأكيد، قلت لها : الآن أنت متزوجة، أكيد أنك لن تقبلي أي مشاركة لامرأة أخرى في زوجك، لكن هبي أنك لست متزوجة، ألا تفضلين أن يكون لك >نصف زوج< مستقر وممضمون عوض لا شيء، قالت لا أقبل على الإطلاق. قلت إذن تبقين هكذا عانسة دون زوج ولا زواج، ثم قالت بكل استخفاف : >أتعاطى للدعارة< قلت لها إذن ستكون المصيبة أكبر من عدة جهات :
-أولا أن الذي رفضته ستقعين فيه من عدة جوانب، لن يكون لك “زبون” واحد، بل عدة، وهؤلاء بالتأكيد لن تكوني أنت “الزبونة الوحيدة” بل سيكون لديهم المآت. كما أن زوجك الآن، أو زوج غيرك سيكون أحد هؤلاء الزبناء، فالذي لم ترضيه في إطار شرعي قانوني معروف، ستكونين مضطرة لقبوله، في إطار غير قانوني حتى ولو كان ذلك سرّا، أي عوض أن يكون لزوجك زوجتان، ستكون له زوجة واحدة وخليلات عديدات.
- ثانيا : أنت الآن في ريعان الشباب، فبالتأكيد لو افترضنا كما قلت احترفت البغاء سيكون لك زبناء، لكن ماذا بعد أن يتقدم بك السن، وتصبحين هرمة، لا حنان ولا عطف، ولا أولاد شرعيون ولا غير ذلك؟
- ثم ثالثا إن الجيش الجرار الذي ستستقبلينه في حالة البغاء، كل سيَحْمِل أمراضه وهمومه إليك، فما مدى طاقة تحملك؟؟
سكتت السيدة لحظة، وتدخلت فتاة أخرى من الجلساء وقالت : أما أنا فأفضل أن أكون زوجة ثانية، عوض أن أرتمي في حمأ الأمراض والرذيلة وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي.
أردفتُ قائلا : ثم إنه بعد هذا الافتراض الساذج، الأمر لا يتعلق بأن الرجل له الحق والمرأة ليس لها الحق، الأمر مقنّن، فليْس أي زوج له حق التعدد، التعدد رهين بشروط وضوابط ودوافع، أذكر لك واحداً منها : أنت الآن متزوجة، لكن افترضي -لا سمح الله- حدث لك ما يمنعك من أذاء واجبك كزوجة : مرض -حادثة الخ.. هل تفضلين البقاء في بيت الزوجية وتأتي زوجة أخرى تخدمك، وتخدم زوجك، أم تبقين زوجة ولا زوجة، ثم أردفت قائلا، لا ينبغي التفكير فقط بالمنطق الاجتماعي الفرنسي حيث الضمان الصحي والاجتماعي والمادي مضمون مائة في المائة. فالإسلام لم يأت لمجتمع دون مجتمع هو رسالة للعالمين، وأنت تعلمين ما تعانيه العديد من شعوب العالم من فقر ومجاعة وحروب وغير ذلك. فكل الافتراضات السابقة ينبغي أن تفكري في حلها، كما لو كنت خارج المجتمع الفرنسي، ستجدين أن العديد من الأمور مما طرحناه في النقاش مقبول، بل وواجب.
سكتت السيدة طويلا، وتدخل آخرون، حتى قال أحدهم وهو ماسك بيد زوجته خالطا الجد بالهزل : أقسم لك أنه لو كان لدينا قانون يسمح بالتعدد لما ترددت لحظة واحدة في ذلك.
بعدها عادت السيدة إلى الحديث، وقالت : لقد أفحمتني، لكن مع ذلك نفسياً لا أقبل الفكرة، وإن كنت أجدها مبدأ مقبولا.
قلت لها أما ما بنفسك فإنها الغيرة وهو أمر طبيعي لا تخلو منه نساء الدنيا وأما المبدأ المقبول فهو جوهر هذا التشريع في الإسلام.
ابتسمت ابتسامة عريضة وقالت : صحيح..
فيا ليت قومي يعلمون ويدركون ما أدركته هذه السيدة الفرنسية.