عبد القادر الأسمر
كل من تتبع ردود الفعل العربية والإسلامية على المجازر اليهودية التي ترتكب بحق شعب غزة لا بد أن يتملكه الدوار وأن يستعصي عليه تفسير بعض المواقف المخزية، من جانبنا، وأن يبدي إعجابه وإكباره لمبادرات طيبة من العديد من الدول غير العربية.
فمن يا ترى يستطيع أن يستوعب حقاً أن هناك بعض الدول الشقيقة تمنع مواطنيها من التعبير عن حنقهم وغضبهم بتظاهرات سلمية، حتى وإن كانت مرخصة، هذا إذا منحت الترخيص؟
لقد كُفّت الشعوب العربية عن تغيير >المُنكر< باليد، ويُعمَد الآن إلى منعها عن التعبير عن هذا الرفض حتى باللسان.. ثم يأتيك من يُفتي بأن التظاهر يلهي عن ذكر الله!! وهذه إحدى غرائب الفتاوى التي تطالعنا من حين لآخر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إننا نخشى أن نصل إلى يوم يُمنع فيه حتى الدعاء، فضلاً عن الكتابة وإقامة الندوات التي هي أصلاً لا يمكن أن تحقق الدعم الملموس والمجدي لإخواننا في غزة، وهي كلها لا تعدو مجرد تسجيل مواقف طيبة يعذرنا عليها أولئك الذين يفتدون بأرواحهم >الأرض التي بارك الله حولها<.
إنهم يعلمون أن معظم الشعوب العربية مغلوب على أمره، وأنها تود لو يطلق لها العنان ولو لمرة واحدة في تاريخ هذه النكبة المتواصلة منذ أكثر من ستين عاماً لتؤدي واجبها في نصرة المحاصرين في غزة ولتبذل لهم الغالي والنفيس، ولكنّ من يقرأ تاريخ هذه القضية لن يصعب عليه اكتشاف العديد من المحطات المماثلة عندما كان المجاهدون يُمنعون من التوجه إلى أراضي فلسطين، أو يقبض عليهم فور عودتهم.
لذا كنا نشعر في هذه المرة ببعض المواساة عندما تنقل إلينا وسائل الإعلام المرئية أنباء التظاهرات المليونية الحاشدة التي عمت معظم الدول الإسلامية وبخاصة في إندونيسيا وماليزيا وتركيا، ولا عجب أيضاً أن نرى الأوروبيين يعتصمون لأيام متتالية في ساحات لندن وبروكسل وأوسلو أمام السفارات الإسرائيلية يطالبون بطرد السفراء الإسرائيليين. حتى إن النرويجيين دعوا إلى سحب جائزة نوبل للسلام من قاتل الأطفال بيريز.
ترى ما هو موقف بعض>أشقائنا< المتعنتين من الدور التركي المميز الذي لفتنا به رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان؟
لقد انتعشت النفوس القلقة في غمرة الأحداث الحالكة لهذه المواقف الشجاعة التي ظهرت في أكثر من تصريح ومقابلة تلفزيونية توعد فيها أردوغان العدوّ بقوله: >إن إسرائيل ستغرق بدموع الأطفال والنساء المظلومين الذين قتلتهم، وبدموع الأمهات اللواتي فقدن أطفالهن< مضيفاً: >إن الله سيعاقب اولئك الذين ينتهكون حقوق الأبرياء عاجلاً أم آجلاً<.
ولم يتوان أردوغان في توجيه انتقادات شديدة دون أن يخشى أي رد فعل سلبي من العسكر عنده، والمعروف بانحيازه الشديد لليهودية العالمية، كما أن أعضاء جمعية الصداقة التركية – الإسرائيلية من النواب الأتراك قد أعلنوا انسحابهم احتجاجاً على جرائم >إسرائيل< بحق أهل غزة، فيما لم نعمد حتى إلى إزعاج سفراء العدوّ في بلادنا بأي كلمة تحرجهم!!
ألا تستحق منا تركيا تحية شكر وامتنان وهي بالطبع على دين رؤسائها الذين انتفضت في نفوسهم الحمية الإسلامية الحقه؟
>تشكرلر< تركيا التي أنستنا تراث أتاتورك وأكدت لنا بعض بصيص الأمل الذي ينبثق من مشكاة واحدة يمتد نورها إلى أربعة عشر قرناً ويزيد.
وإذا كان حقاً علينا أن نشكر لتركيا موقفها الرسمي المشرف، فلا بد أيضاً من أن نشيد بموقف الرئيس الفنزويلي شافيز الذي يعبر بصورة دورية عن تأييده للقضية الفلسطينية عندما قرر طرد السفير الإسرائيلي من بلاده فوراً، ولم يكلف نفسه حتى مجرد استدعائه أو توجيه رسالة لوم أو حتى إنذار شديد اللهجة.
>غراسيا شافيز< فلقد بتنا نوجه تحيات الشكر بمعظم لغات العالم ما عدا بالعربية وهذه قمة >الكوميديا السوداء< التي تحفل بالمرارة والأسى والغضب.
ولم يبق لنا نحن المكبلين إلا أن نتساءل في ما بيننا، كم بلغ عدد الشهداء اليوم؟ وهل هناك من أفق قريب لإنهاء معاناة غزة؟ ومتى يفك عنها الحصار؟ إلى متى تمنع عنهم المواد الغذائية والتجهيزات الطبية والوقود؟ هل يمنُّ عليهم بعضهم باستقبال بعض الجرحى؟ وكيف السبيل إلى إيصال الدعم لهم؟ وهل سيجتمع مجلس الأمن لإقرار توصية بانسحاب العدو من القطاع أم أنه سيندد بالطرفين؟ ولماذا لم تعقد قمة عربية إلى الآن؟ وإذا عقدت ماذا ستثمر من توصيات؟
من غزة هاشم أبلغ دروس لهذه الأمة، بل وللعالم أجمع، أنه يستحيل أن يدوم هذا الكيان الصهيوني. ولقد كشفت هذه الملاحم البطولية حقيقة مشاعر دول الاستكبار التي ترفض حتى مجرد هدنة إنسانية، فيما لا يزال هناك من يرانا أننا نحن المعتدون والإرهابيون.
شكراً لك غزة على رفع رؤوسنا عالياً، وعذراً على تقاعسنا.. >تشكرلر< تركيا أردوغان، >غراسيا< فنزويلا شافيز.. ولا سامح الله (…).
> الأمان عدد 840