ذ. مأمون كيوان – باحث و كاتب فلسطيني -
جرائم الحرب هي تلك الانتهاكات لقوانين الحرب أو القانون الإنساني الدولي التي تعرّض شخصاً للمسؤولية الجنائية الفردية. ومع الحرب العالمية الأولى، قبلت بعض الدول اعتبار انتهاكات معينة لقوانين الحرب جرائم، قُنن معظمها في اتفاقيات لاهاي لسنة 1899 وسنة 1907. وعرّف ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية لسنة 1945 جرائم الحرب بأنها >انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها، بما في ذلك قتل مدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم, قتل أسرى حرب أو إساءة معاملتهم, قتل رهائن, سلب ملكية خاصة, والتدمير غير الضروري عسكرياً.
وكانت اتفاقيات جنيف لسنة 1949 التي قننت القانون الإنساني الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، علامة على أول تضمين لطقم من جرائم الحرب والخروق القانونية الجسيمة للاتفاقيات في معاهدة قانونية إنسانية. وتحتوي اتفاقيات جينيف الأربع (حول جرحى ومرضى الحرب البرية، جرحى ومرضى الحرب البحرية، أسرى الحرب، والمدنيين) قائمتها الخاصة بالخروق القانونية الجسيمة. والقائمة بمجموعها هي: القتل العمد, التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية (بما في ذلك التجارب الطبية), تعمّد إيقاع معاناة كبيرة أو أذى بدني أو صحي, تدمير واسع للملكية أو الاستيلاء عليها بشكل لا تبرره الضرورة العسكرية, إجبار أسير حرب أو مدني على الخدمة في قوات الدولة الخصم, تعمد حرمان أسير حرب أو مدني محمي من حقه في محاكمة عادلة, إبعاد أو نقل مدني محمي بشكل غير شرعي, اعتقال مدني محمي بشكل غير شرعي, وأخذ رهائن. ووسع البروتوكول الإضافي الأول لسنة 1977 حمايات اتفاقيات جنيف للنزاعات الدولية فأصبحت الانتهاكات التالية خروقاً قانونية جسيمة: تجارب طبية معينة, الهجوم على مدنيين أو مواقع مجردة من وسائل الدفاع, الاستعمال المخادع لشارة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر, قيام دولة محتلة بنقل قطاعات من سكانها إلى أرض تحتلها, الإبطاء غير المبرر في إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم, الأبارتيد, الهجوم على النصب التاريخية.
مؤخراً، وفي عدوانها على غزة ارتكب الجيش الإسرائيلي من خلال قصف الأماكن السكنية للمدنيين والمستشفيات ودور العبادة، سلسلة جرائم حرب تضاف إلى سجله الأسود الكبير في مجال الارهاب واقتراف جرائم الحرب.
ونعرف الآن، بناءً على وثائق الأمم المتحدة، ووثائق أمريكية وبريطانية، وحفنة ظهرت إلى العلن من الأرشيف الإسرائيلي المدني (أرشيف دولة إسرائيل خلال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين)، أن أكثر من دزينة من المجازر ارتكبتها القوات اليهودية ضد العرب في مجرى الحرب الإسرائيلية العربية الأولى سنة 1948 وتتدرج هذه المجازر حجماً من إطلاق النار على حفنة من المدنيين أو عدة دزينات منهم اختيروا عشوائياً واصطفوا إلى حائط قرية بعد احتلالها (كما حصل في قرى مجد الكروم وبعنا ودير الأسد وعيلبون وجش وصالحة وصفصف وسعسع خلال عملية >حيرام<) إلى ذبح نحو مائتين وخمسين مدنياً ومعتقلاً أثناء إطلاق نار في مدينة اللد، عصر الثاني عشر من تموز سنة 1948.
وعبر الأعوام، كشف الإفراج عن وثائق جديدة، ومقابلات صحفية جرت مع شهود ومشاركين، مجازر إسرائيلية ارتكبت بحق المدنيين وأسرى الحرب العرب في الحروب اللاحقة في سنوات 1956، 1967، 1973 و 1982.
وعلى سبيل المثال، في نهاية شهر تشرين أول 1956، قتل لواء مظلات الجيش الإسرائيلي نحو ثلاث دزينات من أسرى الحرب قرب ممر متلى. ودفع كشف النقاب عن هذا الشأن سنة 1995 المصريين إلى تقديم احتجاج إلى اسرائيل والمطالبة بتحقيق لم تعلن نتائجه بعد.
وأثناء حرب حزيران 1967 وحرب تشرين الأول لسنة 1973، وقعت حالات قام فيها الجيش الإسرائيلي بقتل قوات عربية, في الأغلب غير مسلحة، كما قتلت عمداً أسرى حرب.
وفي سنة 1982 قتل الإسرائيليون، بطائراتهم ومدافعهم ودباباتهم، آلاف المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، مروراً بمجزرة قانا عام 1996، وصولاً إلى حرب صيف العام 2006 التي ارتكب خلالها الجيش الإسرائيلي مجزرة جديدة في قانا وجرائم حرب أخرى في الجنوب اللبناني والبقاع وبيروت وضاحيتها الجنوبية.
ورغم أن غالبية دول العالم تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة >مناطق محتلة<، مما يعني أن جميع النشاطات الإسرائيلية فيهما محكومة باتفاقية جينيف الرابعة لسنة 1949، إلا إن إسرائيل تدعوهما >المناطق المدارة<، ولها رأي مختلف بشأن التزاماتها نحوهما ووضعهما القانوني.
إضافة إلى ذلك، فإن قراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين طالبا إسرائيل بالانسحاب من أرضٍ محتلة، لم يقولا إن دولاً أخرى ادعت سيادة عليها في ذلك الوقت. أكثر من ذلك، تحاجج إسرائيل بأن أي ادعاء فلسطيني بالسيادة على الأراضي، على أساس قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947، أصبح باطلاً لأن الفلسطينيين والدول العربية المتحالفة معهم رفضوا القرار وامتشقوا السلاح ضده.
وقد انتقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ودول وباحثون موقف إسرائيل القانوني. فقد لاحظ النقاد أن المادة الأولى من اتفاقية جنيف الرابعة تطالب الطرف السامي المتعاقد بـ >احترام وضمان احترام< الاتفاقية >في جميع الظروف<. أكثر من ذلك، تنص المادة الرابعة >الأشخاص الذين تحميهم الاتفاقية هم أولئك الذين يجدون أنفسهم في لحظة ما، وبأي شكل كان، في حال قيام نزاع أو احتلال، تحت سلطة طرف في النزاع ليسوا من رعاياه أو دولة احتلال ليسوا من رعاياها<. ولذا، يتفق النقاد على وجوب أن تطبق إسرائيل الاتفاقية بكاملها، ومن المبالغ فيه الزعم بأن قبول انطباق الاتفاقية يعني أعترافاً بسيادة سابقة.
صحيح أن إسرائيل طرف في جميع اتفاقيات جنيف الأربع، إلا إنها لم توقع البروتوكولين الإضافيين الملحقين بها لسنة 1977. وتقول الحكومة إنها تطبق في الممارسة الفعلية ما تسميه >أحكام< الاتفاقية الرابعة >الإنسانية< على الأراضي المحتلة، دون تحديد أية أحكام هي الأحكام >الإنسانية<.
وأحد أسباب رفض إسرائيل تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة قانونياً، هو أن حكومة حزب العمل التي كانت في سدة الحكم سنة 1967 خشيت من أنها إن طبقت الاتفاقية التي تشير مادتها الثانية إلى >جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لأراضـي طرف سام متعاقدٍ<، فإنها ستعترف فعلياً بالأردن سيداً سابقاً عليها. فإسرائيل تعتبر الأردن محتلاً في حالة حرب معها احتل الضفة الغربية بشكل غير شرعي وألحقها بشكل غير قانوني.
وفي الممارسة العامة، تعمل المحاكم الإسرائيلية، مسترشدة بإرشادات المحكمة العليا، في ضوء القانون العرفي الدولي المتعارف عليه وتلك الاتفاقيات الدولية التي تم تبنيها في القانون الإسرائيلي الداخلي. وهكذا، يوجد انفصام بين موقف إسرائيل الرسمي العلني في المنتديات الدولية وبين ممارستها القانونية في الأراضي المحتلة.
إن وقف جرائم الحرب الإسرائيلية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني ووقف التهديد الذي تشكله سياسة العدوان الإسرائيلي للسلم والأمن الدوليين, أمر يتوقف على تحرك عربي سياسي وإعلامي فاعل نشط مكثف ومنظم تشارك فيه الحكومات والإعلام والدبلوماسية والجهات الحقوقية العربية، ويهدف إلى فضح هذه الجرائم وتحديد المسؤولين عنها وتوصيفها وفق أحكام القانون الدولي، والدعوة باستمرار لتشكيل محكمة حرب دولية تعقد لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائمهم, إلى جانب كشف التواطؤ الغربي والأميركي مع إسرائيل بارتكابها, فالعالم لن يخرج عن صمته إلا إذا نطق صاحب الحق.