زين العابدين الركابي
>إن منطقة الشرق الأوسط أصبحت أبعد عن السلام مما كانت عليه عند توقيع الاتفاق الفلسطيني الاسرائيلي: أوسلو >.. تصريح للرئيس الأمريكي الأسبق: بل كلينتون عام 1999 بعيد مذبحة المسجد الإبراهيمي التي اقترفها إرهابي صهيوني ضد المصلين وهم في صلاتهم!!.. ولئن أبعدت تلك الجريمة السلام عن المنطقة أميالا -كما يقول كلينتون- (بافتراض خيالي أن هناك سلاما حقيقيا)، فإن مما لا شك فيه: أن محرقة غزة قد أبعدت السلام آلاف الأميال: بالقياس الجغرافي، وعشرات العقود: بالقياس الزمني.
لسنا في حاجة إلى أن نحلف بأننا من محبي السلام ودعاته، فالسلام عندنا (عقيدة) ثابتة… لا مجرد أغنية موسمية، أو تجمل سياسي، أو مباهاة أخلاقية: عقيدة ثابتة يستمدها المسلم من حظه أو من تحققه بمضمون عظيم من مضامين اسم جليل جميل من أسماء الله الحسنى: اسم (السلام).. ثم أن السلام مصلحة حقيقية لنا، إذ نحن أمة عطشى إلى البناء في كل شيء، ولا بناء ولا نهوض إلا في مناخ يسوده السلام والاستقرار، بل إنه من فرط حبنا للسلام: نرفع أصواتنا من أجل حمايته من عمليات (الإجهاض)، ومن الذين يستغلون اسمه لزرع (نواة) للحرب والنزاعات في المستقبل، وكأي من اتفاق سلام زائف وُقّع من قبل، ثم كان هو ذاته (سببا) في حروب جديدة.. لماذا؟ لأن الأسس التي انبنى عليها ذلك السلام الكذوب اللعوب: غامضة مبهمة مجحفة غبية مستعلية اتُخذت ستارا لأطماع جديدة. فالحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى امتلأت بمعاهدات واتفاقات (السلام)!.. مثلا: فُرض على ألمانيا في معاهدة فرساي: توزيع أرضها أو جزء من أرضها على الدنمارك وفرنسا وبلجيكا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، كما فُرض عليها أن تدفع غرامات هائلة، وأن تُدين نفسها!!. فماذا كانت النتيجة والمآل؟. لقد أصبحت هذه المعاهدات (خميرة) لحرب أطول مدى، وأفدح خسائر، وأقبح آثارا: في النفوس والعمران، وهي الحرب العالمية الثانية.
وهذا ما تريده اسرائيل وتكرره اليوم: بفرض شروط باطلة على الفلسطينيين بقوة النيران والقتل والتدمير والقهر والتشفي المريض مما أبعد السلام وطوّحه في المجهول تطويحا (مرة أخرى: بافتراض خيالي: أن هناك سلاما حقيقيا ذا شروط موضوعية عادلة).
فما هي أسباب ابتعاد السلام المُفترض أو المُتخيل؟. من هذه الأسباب:
أ- أن (إرادة السلام) لدى الاسرائيليين ليست صادقة ولا جازمة، بل نستطيع القول ـ بموجب قرائن ودلائل عديدة ـ : إنه لم تكن هناك إرادة صهيونية للسلام قط، بل كان هناك (استثمار سياسي) طموح و مُوسع لـ (ظروف الضعف الفلسطيني والوهن العربي). وفرق كبير بين الانتهاز الأناني لفرصة ضعف لاحت وبين تبييت النية والإرادة على السلام الحقيقي.
ب- السبب الثاني هو (الغلو السياسي) في تصور السلام المُدّعى.. والغلو السياسي -كالغلو الفكري- مطبوع بآفتين مهلكتين: آفة حقن الناس بسائل مخدر يروضهم على (التعامل مع الأوهام) والتلذذ بالخيالات والأحلام.. وآفة أنه يترتب على الغلو السياسي: إحباطات مريرة، وخيبات وبيلة، وفواجع محطمة، وذلك حين يكتشف الناس: الآماد البعيدة التي تفصل بين الصورة الجميلة التي رسمها الغلو السياسي لهم وبين الواقع الدميم الذي يعيشونه.. وهذا هو الحاصل اليوم بالضبط.
ج- السبب الثالث: السلوك الاسرائيلي نفسه، فعلى الرغم من أن القيادة الفلسطينية قدمت كل شيء لإسرائيل، وغامرت بكل شيء، فإن غلاة الصهيونية تصرفوا أو مارسوا ذات السلوك الذي سبق اتفاق أوسلو.. في كتابه (طريق أوسلو) أثبت رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس: النص الحرفي للرسالة التي أرسلها ياسر عرفات إلى إسحاق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي يومئذ.. ومن فقرات تلك الرسالة: >تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة اسرائيل في الوجود بسلام وأمان، وإن المنظمة تؤكد أن تلك المواد الواردة في الميثاق (الميثاق الوطني الفلسطيني) والتي ترفض حق اسرائيل في الوجود، وكذلك بنود الميثاق التي لا تنسجم مع الالتزامات الواردة في هذه الرسالة تصبح الآن عديمة الأثر وليست سارية المفعول<… فماذا كان السلوك الاسرائيلي تجاه هذه (التنازلات الفلسطينية الكبرى) وبإزاء هذه الفرصة التاريخية والسياسية؟.. إن أول معيار لمصداقية اسرائيل تجاه ذلك كله هو: البدء بتنفيذ أوسلو في الموعد الذي اتفق عليه في أوسلو نفسه (المرحلة الانتقالية ومفاوضات الحل النهائي).. ولقد مضى على توقيع الاتفاق واعلانه عام 1993 خمسة عشر عاما دون أن تُوفي اسرائيل بما تعهدت به في الاتفاق.. لقد تنصل قادة اسرائيل من الالتزام بما تعهدوا به بسهولة أو باستهتار، ثم لم يلبثوا أن صنعوا (لجة لزجة): تعلق بالأقدام فتقيد أو تبطئ الخطى حول مسألة المعابر مثلا، وكلما انتُقدوا بسبب ذلك رفعوا شعار: كل شيء يُحال إلى المفاوضات، وكلما عرضت نقطة في هذه المفاوضات قالوا: هذه لم نتفق عليها وتتطلب مزيدا من الدرس والتشاور!! لأجل أن يمتد الزمن ويطول ـ بلا سقف معين ـ، ويتبخر الاتفاق ـ من ثم ـ ويُنسى. فيكون المكسب الضخم قد تحقق وهو اعتراف الفلسطينيين بأن (فلسطين) التاريخية (حق) لإسرائيل دون مقابل تقدمه اسرائيل لهم.. وإلا كيف يُفسر أن المفاوضات النهائية حول القضايا الاساسية لم تنجز حتى الآن، على الرغم من مرور خمسة عشر عاما على توقيع أوسلو؟! (ملاحظة: هذا الخذلان الإسرائيلي للسلطة الفلسطينية تسبب في فوز حماس في الانتخابات الماضية).
د- أما السبب الرابع لابتعاد السلام هو (مداهنة المجتمع الدولي) ـ ولا سيما الغرب ـ لإسرائيل وسلوكها العدواني. فباستثناء العبارات الخجول الكسول: لم يكن هناك موقف دولي صدوق وحازم ومسؤول ومشبع بقيم حقوق الانسان والعدالة الدولية تجاه جرائم اسرائيل ضد الفلسطينيين.. وجريمة (محرقة غزة) على وجه التخصيص.
ولا بد من مواجهة جادة وصريحة مع هذا الذي يحمل اسم (مجلس الأمن الدولي)، وهي مواجهة من زاويتين:
1- زاوية: أن نظام مجلس الأمن ـ وهو أطول فصل في ميثاق الأمم المتحدة ـ ينص على أن المهمة الأولى، والوظيفة الكبرى لمجلس الأمن هي ـ بالتحديد ـ حفظ السلم والأمن الدوليين. لكن المجلس بسلوكه ذي التثؤب المصطنع تجاه محرقة غزة قد (هدم) مهمته الأولى، بل جعل مهمته الأولى هي (تقويض) الأمن والسلم الدوليين.. وماذا هناك من صور تقويض الأمن الدولي أعظم وأجرم وأخبث من صورة إبادة شعب كامل في غزة: ينتمي إلى ذات الفصيلة التي ينتمي إليها أعضاء مجلس الأمن؟!: بمعنى أنه شعب من بني آدم يحمل ذات الصفات الآدمية التي تحملها شعوب الأرض كافة.
2- زاوية: الانفصام المرضي في شخصية هذا المجلس، فهو يجتهد وينشط و(يُخلص) في كل قرار يتخذه لدعم اسرائيل وحمايتها (وما أكثر قراراته في هذا المجال) على حين يجمد ويخمد ويتخابث في تنفيذ القرارات التي تنصف الفلسطينيين -بعض الإنصاف- ومنها -مثلا- قراراه: 242 -338 .. ومن هنا كان الموقف السعودي الصريح الذي صدع به وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل بخصوص السلوك المتلكئ لمجلس الأمن. فقد قال يوم الأربعاء الماضي -في مجلس الأمن نفسه- >إن العدوان الاسرائيلي الذي يتواصل على غزة يضع علامة استفهام على مصداقية مجلس الأمن. ومما وجدناه مدهشا بل مذهلا هو صمته الأصم منذ الهجوم على غزة، على حين أن إسرائيل هي المسؤولة عن إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار لأنها فشلت في الالتزام بتعهداتها بموجب شروط وقف إطلاق النار المبرم في الثامن من حزيران (يونيو) 2008.. إن على مجلس الأمن أن يتعامل مع قضايانا الشرعية بجدية ومسؤولية ترتكز على القانون الدولي، وإلا فإننا نحن العرب سنكون مجبرين على أن نتخذ الخيارات التي تفرض نفسها<.. ويبدو أن هذا الموقف الصريح كان له أثره العاجل في قرار مجلس الأمن القاضي بوقف إطلاق النار..الخ.. نعم. إن القرار جاء متأخرا جدا، ولكنه خير من لا شيء، على أن المصداقية الحقيقية تتمثل في (تطبيقه) السريع المحقق لكلمة (فوري)، بيد أن وزيرتي خارجية أمريكا وإسرائيل سارعتا إلى إجهاض القرار. فقد قالت الأولى :>إن إسرائيل لن تنصاع للقرار<..(أمريكا امتنعت عن التصويت)!!.. أما الثانية فقالت :>إن إسرائيل تتصرف بمعيار حساباتها و مصالحها فقط<!!. وهذا يقتضي مزيدا من (النضال الدبلوماسي) الذي أثمر صدور القرار، وإلا فإن مجلس الأمن نفسه سيتسبب في هدم القانون الدولي، والنظام العالمي، ومبادئ حقوق الانسان. سيتسبب -بصراحة- في (فوضى إقليمية وعالمية) لا تطيقها إسرائيل ولا المنطقة العربية ولا الدول الكبرى ولا العالم كله. فهناك قطاعات كبيرة من البشر (واسألوا استخباراتكم إن كانت مؤتمنة على المعلومة والرأي)، قطاعات متأهبة لـ (الكفر) التام بالقانون الدولي ـ والنظام القائم عليه ـ. فهناك المتطرفون النائمون، وهناك الإرهابيون المنغمسون في الإرهاب، وهناك الإرهابيون تحت التجنيد، وهناك الساخطون (مما تفعله اسرائيل وأمريكا). وهؤلاء لم يفكروا في العنف قبلا، ولكن أفعال إسرائيل النازية حببت العنف إليهم -كرد فعل مساو للعنف الإسرائيلي-.. ومما لا شك فيه أن هذه الاحتمالات الجدية المتوقعة: مترتبة على (الكفر) الشديد بالقانون والنظام الدوليين، وهكذا تنفتح أبواب فوضى إقليمية وعالمية دامية لن تترك أحدا سعيدا ولا آمنا، وإن توهم أنه يمكنه ذلك!!
> الشرق الأوسط ع 11001