يمكن تلخيص هذه الثمار والفوائد التربوية فيما يلي
> أ- بلوغ الإنسان درجة اليقين بالله تعالى والثقة الكاملة بنصره سبحانه، وذلك ما حصل لأنبياء الله، كموسى عليه السلام الذي قال القرآن على لسانه: {قال كلا إن معي ربي سيهدين }(الشعراء : 62) وكما قال الرسول لأبي بكر الصديق ] وهما في الغار، في قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا }، {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}(التوبة : 40).
> ب- أن يصير وليا لله تعالى: وحينئذ فإن الإنسان الرباني إذا وصل إلى هذا المستوى من اليقين والثقة في الله تعالى حلت ولايته، فكان وليا لله تعالى، وإذا حلت الولاية الإلهية، كان النصر من الله لأوليائه قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون}(يونس : 62- 63)، وفي حديث الولاية القدسي: >من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ….<(1).
والولاية هاهنا بهذه المعاني الدالة على القرب من الله والمحبة والنصرة الإلهية لأوليائه وأصفيائه، لا يفهمها إلا الربانيون، وهي منزلة من منازل الرقي في العبدية الحقة للمعبود سبحانه، لا تكون إلا لأهل الإيمان والتقوى، والتقوى درجة إيمانية عالية، ومنزلة خلقية راقية، قال تعالى: {إن أولياؤه إلا المتقون}(الأنفال : 34).
> ج- استحقاق رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة : وهنا لابد أن نشير إلى أن ثمرة التقوى من أعظم ثمار التربية الدعوية الربانية، ولهذا فإن رحمة الله تعالى إذا كانت تسع كل شيء في الدنيا فإنها لا تسع يوم القيامة إلا صنف المتقين قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للمتقين..}(الأعراف : 156).
والوصول إلى هذه الدرجة من التقوى التي يستحق معها المؤمن رحمة الله دنيا وأخرى لا يتأتى إلا بالمجاهدة والمصابرة، والإتصال الدائم المباشر برب العزة سبحانه وتعالى، فيصير بذلك رحمة لعباد الله في الأرض بدعوتهم إلى الهدى وقضاء حوائجهم وجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم .
> د- إن هذه التربية تربي النفس على احتمال المكاره وعدم اتباع الشهوات: والأصل في هذه الثمرة قوله : >حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات<(2)، فالطريق إلى الجنة تزويد للنفس وحملها على الطاعات وصبرها عليها، وفي ذلك احتمال للمكاره، والطريق إلى النار اتباع شهوات الأنفس واتخاذ الأهواء آلهة تعبد وتطاع من دون الله تعالى .
ولتربية النفس وحملها على المكاره، فائدة عظيمة، قال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}(النازعات : 40- 41)، ونهي النفس عن هواها جهاد يتقدم جميع أنواع الجهاد .
> هـ- إن هذه التربية لا تقتصر على تربية النفس، وإنما تتعداها كما تقدم إلى تربية جوارح الإنسان كلها، وتربية عقله وفكره، إذن فهي تربية تمد المتربي بالنور والرشد والنضج، وتكسبه علما وتجربة، لأنه حينئذ يكون قد تزود بزاد الإيمان والتقوى،وبزاد العلم القرآني والنور الرباني المستلهم من نور الوحي وهداياته، فاستنارت بصيرته ببصائر القرآن، ولهذا سمى الله تعالى الكتاب المنزل على محمد بالنور لأنه العلم الحق المطلق الذي تستضاء به البصائر، وتستنار به القلوب، فتهتدي إلى سواء السبيل، قال تعالى : {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى : 49)، إنه النور الذي تنشرح به الصدور فتفرق بين الحق والباطل توفيقا من الله وتأييدا، فالروح الموحى به إلى الرسول هوالقرآن الذي جعله الله نورا يهدي به من يشاء من عباده(3).
وخلاصة الأمر فإن تربية الإنسان وإعداده الخاص يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى علم ومنهاج واضح يستمد من المنهج الرباني الذي تربى في أحضانه الرسول وصحابته الكرام، لأن هذه التربية الممتازة هي التي تخرج لنا اليوم الدعاة الأقوياء الأمناء،الصالحين المصلحين، المتبصرين بنور الشرع وهداياته،، الموقنين بنصر الله الذي وعد به المؤمنين، فيصيرون بذلك دعاة ربانيين يؤثرون بسلوكهم الرفيع وعلمهم الراسخ وخلقهم الكريم في الناس، فيقبلون على الإسلام إقبالا، ويلتزمون بتعاليمه التزاما.
ولعل حالة التردي التي يعيشها المسلمون اليوم والتي عمت كل الجوانب: العلمية والمنهجية، الخلقية والسلوكية، الثقافية والفكرية، الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، هي السبب في إعراض الناس عن الإسلام، ويوم كان المسلمون الأوائل قرآنا في العلم والأخلاق والسلوك كان الإقبال على الإسلام، ودخول الناس فيه أفواجا، وكان الفتح الرباني على المسلمين بالخير والبركات .
إن الضعف التربوي العام، الشامل لكل الجوانب هو الذي أفرغ الدعوة الإسلامية المعاصرة من محتواها الحقيقي، وعمقها الإستراتيجي،إذ بقدر ذلك الضعف في أبنائها يكون ضعف الصلة بالله تعالى، فحل الفراغ الروحي والخواء القلبي محل الزاد الإيماني، وحل سوء الأخلاق واعوجاج السلوك محل مكارم الأخلاق وأفضلها، وحل الجهل بالدين والدعوة والواقع محل العلم والفقه، وحل القصور المنهجي محل القوامة والرشد المنهجي المبثوث في ثنايا آيات الوحي، قال تعالى : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 9)، يهدي للتي هي أرشد وأقوم في كل شيء، ومن ذلك القوامة الدعوية والرشد التربوي .، فيحل بسبب الاهتداء في ذلك للتي هي أقوم العمق العلمي والرشد المنهجي في التفكير والتعبير والتدبير التربوي والدعوي خاصة، وفي البناء الحضاري والعمران البشري للأمة عامة، فتستعيد بذلك الدعوة الإسلامية عافيتها ورشدها، وتستعيد الأمة موقعها ووظيفتها في الإمامة والشهادة على الناس بإذن الله تعالى، وهذه العودة لا تتحقق إلا بتوبة منهاجية نصوح في الدعوة والتربية وتخريج المسلم الرسالي المتصف بصفة العبدية لله تعالى وحده، تجسيدا واستجابة لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار }(التحريم : 8).
خــاتـمــة :
تلك كانت بعض المعالم النظرية والمنهجية للتربية الدعوية المستخلصة من هدايات الوحي المنهاجية التي تؤسس للمنهج الفطري الدعوي من حيث منطلقاته وأصوله ومقاصده وخصائصه ومراحله ووسائله، والله تعالى الموفق والمسدد والمعين.
———
1- رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق برقم : 6021 .)
2- رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم :5049 .والترمذي في سننه،باب ما جاء حفت الجنة بالمكاره … برقم : 2482 وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح .
3- ابن كثير : تفسير القرآن العظيم : 4/123.