يبدو أن ايقاع الأحداث ذات البعد التاريخي أصبح أكثر سرعة، بحيث يصعب معها البحث عن نقطة ارتكاز تعين على الاستشراف. ولكن، ومهما يكن من أمر، فإن المحصّلة النهائية للمتغيرات الدولية في السنوات الأخيرة تشير إلى أنه ليس ثمة دوام لا نهائي لخرائط العالم، وأن أشد القوى الدولية هيمنة يمكن، إذا اجتمعت الشروط التاريخية، أن تنزل عن موقعها العالي، وقد تتفكك وتغيب. وبالمقابل فان قوى أخرى كانت تحتل الخط الثاني أو الثالث، تمضي لأخذ مكانها في الصدارة، وذلك هو مصداق الآية الكريمة {وتلك الأيام نداولها بين الناس} بكل ما تنطوي عليه هذه السنّة المؤكدة من قيمة تاريخية تتمثل بالتنوع والتغاير وإعطاء الفرص المناسبة للقوى الأكثر جدارة لممارسة دورها في التحقق التاريخي. وفي الوقت نفسه منح الأمل لكل الذين يتحركون في أسفل السلّم، في أنه سيجيء اليوم الذي يصعدون فيه إذا استكملت الشروط. ويجب التأكيد على العبارة الأخيرة لأن عملية الصعود إلى فوق ليست بالأماني أو الأحلام وانما بالفاعلية المتواصلة، وقبل ذلك بفهم مطالب اللحظة التاريخية، وإدراك السنن والنواميس، وصياغة المنهج المناسب في ضوء هذا كله.
والقرآن الكريم يقولها بصراحة : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءً يجز به..}. وفي المقابل فان الهزائم التي تنزل بالأمم إلى أسفل لا تجيء اعتباطاً، ونحن نتذكر هنا ما حدث في هزيمة أحد. إذ لما دهش المسلمون لهذه الهزيمة، وهم جند رسول الله الموعود بالنصر من السماء، أجابهم كتاب الله بالحسم المطلوب : {أو لما اصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنىّ هذا ؟ قل : هو من عند أنفسكم}.
لقد انهارت الشيوعية في أوربا الشرقية، وتبعها تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأصبحت قلعة الإلحاد الفكري في العالم خبراً من الأخبار. ومن قبل كانت الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، وفرنسا التي كانت تهيمن على مساحات واسعة من آسيا وإفريقيا، قد انهارتا، وتركتا الطريق للقوى الأكثر قدرة وقبل هاتين محيت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية من الوجود.
والحديث يطول، وما يقال عن تفرّد أمريكا في قيادة العالم في المدى المنظور، ليس قدراً نهائياً، كما أن هذه المقولة ضد التاريخ.. ضد السنن والنواميس التي لا يقفها شيء.. وها هي أوربا الموحدة تنهض في مواجهة أمريكا، إن لم يكن اليوم فغداً.. واليابان قد تلعب دوراً ما.. أما عالم الإسلام فان فرصته كبيرة إذا تذكرنا الموقع، والأرض، والمعادن، والمياه، والطاقة البشرية، والعقيدة القديرة على إعادة تشكيل الخارطة الإسلامية ووضع الأمة على حافات البداية الصحيحة للانطلاق إلى الأهداف.. فقط إذا أحسن فهم مطالب اللحظة التاريخية، وتمّ تجاوز حالة الحلم، وأخذ بالأسباب.